زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

ولن تجدها أبداً في بريق الماديات!

ألمس أحيانا وفي سيرورة لهاثنا اليومي وصرامة طبيعة حياتنا وجدية مجتمعاتنا، أننا لا نبحث عن السعادة كشعور حقيقي وبدأنا ننسى أو نتناسى أن نسترخي قليلاً من دوامة القلق والتفكير المزعج في رتوش الحياة من مطامع ومطالب، لنستعيد الأنفاس ونعطي وقتاً ولو يسيراً لترويح النفس فنضحك من أعماقنا أو نتأمل جماليات الحياة بهدوء على أقل تقدير. ولذا جميل أن تحل مناسبة العيد لأنها بمثابة مراجعة للذات وبالتالي لا بد أن تحفزك لكي تقف قليلاً، فتتأمل نفسك وما حولك، خصوصاً بعد مجيء وباء «كورونا» الذي انتابنا بالهلع والاضطراب والفزع. مرض مرعب أحال قضايا الناس وهمومهم ومشكلاتهم وخلافاتهم وأزماتهم إلى توافه صغيرة، لا تعني شيئاً أمام حقيقة الموت، ناهيك عن الفواصل والأوهام والحواجز التي وضعناها بيننا. فجيعة إنسانية عمت كوكب الأرض، وهزة عميقة خلّفتها الجائحة، كمن أفاق من غيبوبة طويلة فأدرك ضعفه، وأن كل ما فعله لا يساوي شيئاً مقارنة بقيمة الحياة والوجود.
في هذا العيد وكل عيد نحن بحاجة إلى لحظة صادقة للنفس ولقيمة ومعنى الأشياء في حياتنا. لحظة السعادة التي يعيشها الإنسان تدفعه للإبداع وتجعل عقله وعاطفته في انسجام وتناغم. قد تكون لحظات عابرة في التفكير، ولكنها في عمقها بمثابة مسافات من الزمن، تأخذك لعالم افتراضي ومواجهة ذاتية تكشف فيها عن حقيقة عوالمك الخفية التي لطالما تناديك على هيئة وخز ضمير لتصحو من غيبوبتك، فهي ليست بغياب عن الواقع بقدر ما هي نسيان لحقوق ذاتك وجسدك، ووسواس دائم بماديات الحياة وهمومها في آن.
جماليات الحياة ومتعتها تتجليان بمقدار كشف وإظهار ما هو موجود فيها. المفكر هيدغر على سبيل المثال احتفى بحياة الفلاح الذي ينتمي للأرض ولا يحمل هموماً وتجده سعيداً هانئاً بحياته، في حين أنه انتقد المدينة الحديثة التي لا جذور لها، وشبه تاريخ الإنسان الحقيقي بمراحل نمو القمح كونه متجذراً في الأرض، فينمو ويكبر ويتطور ليصير خبزاً.
مع قدوم العيد، هل أفسحنا حيزاً للمرح والفرح والترفيه والضحك والبهجة مع من نحب؟ لا أملك الإجابة، ولكن ما أعلمه أن ديننا وكل الشرائع السماوية كرمت الإنسان وشرّعت من القواعد والنظم والضوابط ما يحقق السعادة الدنيوية والأخروية. فالترويح عن النفس لا يعني إضاعة الوقت بل هو ضرورة لتنشيط العقل والروح والجسد. الشعور بإفرازات السعادة تلمسه في سكينة النفس وراحة البال والضمير وطمأنينة القلب وانشراح الصدر.
في الزمن الغابر ورغم المعاناة وشظف العيش، كانت السعادة والقناعة وراحة البال ساكنة في جوف الناس وسمة بارزة لبيئتهم ومحيطهم الاجتماعي، في حين أن عصرنا الراهن وبتوفر وسائل الراحة والمعلومة والمعرفة وتطور العلم والتقنية المذهل فيه، إلا أن التعاسة والوحدة والكآبة أصبحت بلا مواربة هي الأكثر انتشاراً بين الكثير من الناس.
هذا تشخيص دقيق لحالنا وإلا ما معنى تلك الدراسات عن حالة سكان كوكبنا، حيث أشارت إلى أن غالبية المجتمعات تعاني من حالة الاكتئاب والاضطرابات النفسية والقلق الدائم، وتفتقد أدنى درجات الاهتمام والعواطف الإنسانية.
أشارت أيضاً إلى أهمية المرح والضحك والفكاهة للصحة الجسدية والنفسية، ودورها في خلق بيئة إيجابية من الإبداع والنشاط والذكاء. ومع ذلك تجد الكثير من مناسباتنا وأعيادنا يتم تفريغها من معناها الحقيقي، فلا تلبث أن تتحول لطقوس متجهمة مملة، وكأن التجهم والعبوس والصرامة والتقطيب هي المعيار لممارسة مظاهر الاحتفالية في أي مناسبة تقليدية لدينا، بل قد يتجاوز الأمر ليصل إلى ازدراء من يمارس المرح واللهو المباح والتلذذ بجمال الحياة، وقد ينعتونه بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان. هذه نماذج متشائمة بليدة الإحساس لا ترغب في التواصل بل تخلق حاجزاً نفسياً في نسيج المجتمع، رغم أن الضحك والفرح من علامات السعادة التي تحفز المشاعر وتساعدها على مواجهة ضغوط الحياة والتكيف مع ظروفها الصعبة.
بعدما أطبقت علينا الجائحة مع ميلاد التباعد الاجتماعي الذي بات ضرورة نتساءل: ألم تنكشف لنا حقيقة أن نسيجنا المجتمعي بات ممزقاً؟ أعني علاقاتنا الإنسانية وخيوط تواصلها الاجتماعي؟ هل نشوة التسارع العلمي والمعرفي خلقت فينا شيئاً من التناقض وعدم القدرة على الثبات، أم أنه التيار المادي الذي شدنا بريقه، فأحدث تلك الهوة ما بين العلم والأخلاق؟
مجتمعاتنا قد تعاني من أزمة، محيطها الأخلاق والوعي، والسبب يكمن في معضلة الهم المادي الذي غرق البعض منا فيه، وبات همه السعي وراء الرغبات والماديات، وكأن الحياة لديه ما هي إلا حلبة للامتصاص الأناني والنهم وإشباع الذات، ناهيك عن فئة أخرى قلوبها جامدة صلدة أرخصت قيمة الحياة وفقاً لقناعات عقيمة ليست بالضرورة أن تكون صحيحة، فكانت نهايتها الهروب والتقوقع والانعزال.
فمن نلوم إذن؟! رتم العصر وماديته أم العلم وتسارعه أم الإنسان ذاته بطباعه وعقليته وسلوكه؟ كل الدراسات تؤكد أنه كلما تقدم الزمن خطوة تقدم العلم خطوات، وأن إفرازات البحث العلمي المقبلة ستصب في خانة رفاهية الإنسان، لكن هذا لا يعني بالضرورة إسعاده. كم نحن بحاجة إلى بث الحب وأن نعيش لحظاتنا بصدق وتفاؤل وعفوية، وأن نستمتع بقيمة وجمال الحياة. نتوق إلى أن نعيش أياماً شبيهة بتلك التي عاشها أجدادنا ذوو الفطرة النقية فكانوا مسالمين ومتناغمين ومتصالحين مع أنفسهم ومع ما حولهم من دون تصنع أو تشنج، وكانت حياتهم البسيطة مفعمة بالسعادة والأنس والتسامح، فهل بمقدورنا أن نستعيد شيئاً من ذلك الزمن الجميل أم أنه بات ضرباً من الوهم وأقرب إلى الخيال؟!