منذ انطلاقتها، تتجه الأنظار نحو مفاوضات فيينا، بانتظار صعود الدخان الأبيض من أروقة المحادثات المغلقة بين الدول الأربع الكبرى وإيران حول ترتيبات العودة للاتفاق النووي، مع غياب شكلي للوفد الأميركي الحاضر في كل تفاصيل المحادثات، التي دخلت في معضلة أخرى تتمحور حول ما يمكن أن تقدمه واشنطن لطهران في هذه المرحلة، والأخطر ما يمكن أن تقبل به طهران حتى تعلن أن المفاوضات ناجحة أو تتجه نحو تحقيق انفراجة ما يمكن البناء عليها.
الأزمة عشية انطلاق الجولة الجديدة اليوم الجمعة أن حجم التصريحات المتناقضة بين الطرفين (الأميركي والإيراني)، يضاف إليها تناقضات داخل إيران، جعلت الرأي العام المحلي الإيراني والدولي أمام معضلة فهم ما يدور إيرانياً في فيينا، وانعكاسه على صناع القرار داخل إيران، بعدما تسببت التصريحات المتباينة حول ما أنجز وما قد ينجز أو ما قد تحقق، إضافة إلى التلويح بالفشل، في الكشف عن أزمة إيرانية داخلية تعرقل اتخاذ القرار وتكشف حجم ومستوى التناقضات داخل النظام.
يدفع حسن روحاني ووزير خارجيته - المغضوب عليه - من أجل التوصل إلى تسوية ما، وتحقيق ما يمكن من مكاسب تحفظ ماء الوجه لحكومته في آخر أيام عهده، لكنه هذه المرة يفاوض تحت ضغوط عدة؛ تماسك الأطراف الغربية وتقاربها مع موقف واشنطن، ومن جهة أخرى عدم تماسك النظام وتأثير صراعاته على الفريق المفاوض، الذي يبدو أنه يضطر إلى أن يعود إلى أكثر من مرجعية قبل اتخاذ أي قرار، وهذا لم يكن موجوداً عندما كان قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني يقود المفاوضات عن بُعد ويحدد مسار الفريق المفاوض الإيراني.
المناكفة بين الدبلوماسية والإعلام الرسمي في إيران حول ما يجري في أروقة المفاوضات بدأت منذ أسبوعين، عندما رد كبير المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي على تسريبات لقناة «برس» الحكومية كشفت عن قبول طهران بصفقة تبادل للسجناء وتسليمها 7 مليارات دولار من حساباتها المجمدة، كما أن تسريباً آخر تم بثه عبر تقرير إخباري على التلفزيون الرسمي منذ أيام يؤكد، وفقاً لمصدر سياسي مطلع، أن الوفد الإيراني المفاوض وافق على تبادل السجناء والإفراج عن أموال إيرانية مجمدة في الولايات المتحدة، الأمر الذي استدعى نفياً رسمياً على لسان المتحدث باسم الخارجية سعيد خطيب زادة الذي قال: «... أما بالنسبة لما زعمته إحدى وسائل الإعلام مرة أخرى من مصادرها المجهولة، فأؤكد أن تلك المزاعم خاطئة»، وهذا ما يمكن أن يعثّر المفاوضات ويعيدها إلى المربع الأول ورمي الكرة في ملعب طهران.
في فيينا تحرص طهران على إظهار تشددها بضرورة التوصل إلى حل شامل، ورفض ما يمكن تسميته الحلول الجزئية، وتصر على القول بأن ما يجري حتى الآن إيجابي رغم وجود عدة عقبات وخلافات مع واشنطن، وذلك بسبب محاولات الوفد الأميركي الفصل ما بين العقوبات التي أعادت واشنطن فرضها بعد انسحابها من الاتفاق النووي، وبين العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب غير المتصلة بأطر الاتفاق النووي، لذلك يشدد الطرف الإيراني على هذه النقطة ويعتبرها غير مقبولة، لكنه يؤكد أن ما يجري حتى الآن يمكن البناء عليه، وهذا وفقاً لما قاله خطيب زادة من أنه لو «أصرت الولايات المتحدة على إبقاء العقوبات المشددة ضد بلاده، لكانت المحادثات قد توقفت الآن».
من جهتها عادت واشنطن إلى استخدام الغموض والتصريحات المبهمة، وكان آخرها ما قاله وزير خارجيتها أنتوني بلينكن يوم الثلاثاء الفائت، وهو أن «الطريق ما زال طويلاً في فيينا وعلى إيران العودة الكاملة للاتفاق النووي». بلينكن في تصريحه يؤكد أن الولايات المتحدة غير مستعجلة وأن عودة طهران الكاملة إلى الاتفاق أحد شروط إنجاح المفاوضات، ولكنه لم يحدد أن هذه العودة مزدوجة؛ أي عودة واشنطن بالتزامن مع عودة طهران، أم أن هناك رؤية أميركية مختلفة والمطلوب أن توافق إيران عليها.
وعليه يبقى ما يجري في فيينا يلفه الغموض وتسوده التناقضات، لكن احتمالات الخروج بنتائج ملموسة ترضي جميع الأطراف (خصوصاً طهران وواشنطن) لم تزل مستبعدة، وهذا يدفع إلى التخوف من عودة بعض الاضطرابات الأمنية المدروسة إلى المنطقة رغم كل الأجواء الحوارية التي تسود بين أطرافها الكبار.
TT
فيينا... غموض وتناقضات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة