جوناثان برنستين
TT

أميركا: وهم حكم الأغلبية

لدى ويل ويلكنسون، الكاتب السياسي الأميركي، مقال جيد يبسط فيه القول لما أعتقد أنه يمثل الموقف الليبرالي الأميركي المعياري المتخذ بشأن حكم الأغلبية في الولايات المتحدة، مع تعرضه بالنقد الصريح لتفنيد بعض الحجج المطروحة من قبل بعض المحافظين. وعلى الرغم من أن انتقادات ويلكنسون كانت رصينة متماسكة للغاية في غالب أمرها، فإن حججه بشأن حكم الأغلبية لم تكن على مستوى الرصانة والتماسك نفسه.
فهو يرى المسألة من زاوية بسيطة للغاية: إما أن تحكم الأغلبية وإما أن تتولى الحكم الأقلية. والمشكلة مع زمرة المحافظين المناوئين للديمقراطية الذين تحدث عنهم لا تتعلق بأنهم يبغون الحد من وصول الأغلبية لدرجة الحكم المطلق، بل إن المشكلة التي تلائم طرحه الأول للمسألة تتفق ببساطة مع اعتقادهم أنهم يتحتم لهم أن يحكموا، وتنبع الحتمية تلك من تصورهم أن الدستور الأميركي يحمي لهم حقهم في ذلك. ومن ثم، يأتي التأكيد المحافظ على أن تلك الحتمية مصممة لصالح الحزب الجمهوري، وتصوراته لشكل وأسلوب الحكم في القرن الحادي والعشرين. ويمكنكم مراجعة مقال ويلكنسون للوقوف على طرحه للمسألة وحججها، وموقفه منها، غير أنني أرى أن ذلك ما ينتهي عنده الأمر.
وعلى الرغم من ذلك، فإن عدم تولي فئة أقلية بعينها مسؤولية إدارة دفة البلاد لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية مقتصرة على حكم الأغلبية. يتحدث ويلكنسون بالنيابة عن كثير من الشخصيات الليبرالية الرئيسية التي تعارض وجود المجمع الانتخابي في المقام الأول، وحجم المماطلات السياسية، والتشكيل الراهن لمجلس الشيوخ الأميركي، وكذا التلاعب في توزيع الدوائر الانتخابية، فضلاً عن القيود الأخرى المفروضة على حكم الأغلبية. غير أنهم لا يعارضون هذه الأمور فحسب لاعتبارات النقص اللازمة، بل إنهم يعارضونها بالأساس للقيود غير المفهومة التي تفرضها على حكم الأغلبية. وللسبب نفسه أيضاً تراهم يعارضون النظام الثنائي للمجلس التشريعي الأميركي (الكونغرس) بصفة عامة، مع المراجعة القضائية، والنظام الكامل لمؤسسات الدولة المستقلة بعضها عن بعض، المتقاسمة للسلطات المشتركة، ويتطلعون بشوق بالغ إلى الأنظمة البرلمانية التقليدية التي تتفوق -من الناحية النظرية على أدنى تقدير- في تحويل حكم الأغلبية إلى عملية سياسية.
تطرح المفكرة السياسية الأميركية حنا أرندت، في كتابها «حول الثورة»، رأيها الخاص بشأن الفرق الجوهري القائم بين حكم الأغلبية والاستعانة بتصويت الأغلبية في الانتخابات والهيئات التشريعية، وما إلى ذلك، إذ تقول: «عادة ما نسوي، وربما نمزج عن غير قصد، بين حكم الأغلبية وقرار الأغلبية بالتصويت. وقرار الأغلبية هذا، في جوهره الأصيل، ليس سوى كيان فني محض. وفي الولايات المتحدة، وعلى أي معيار كان، يؤطر الدستور بمقاصد صريحة واعية -وبقدر عناية واهتمام العنصر الإنساني- للحيلولة قدر الإمكان دون تحول قرارات وإجراءات الأغلبية إلى بلوغ درجة الاستبداد الاختياري من قبل منصة حكم الأغلبية».
الديمقراطية هي حكم الشعب، وهي ليست حكم فصيل واحد من الشعب، وهي ليست الحكم من قبل فئة الأغلبية الغالبة انتخابياً فقط كذلك.
ومن بين أسباب تجنب حكم الأغلبية أن أي أغلبية حاكمة ضمن أي نظام سياسي كبير هي في الأرجح محض خيال على أي حال، تماماً كما تنبأ جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة، في مقالته المعنونة بـ«الفيدرالية العاشرة». وفي معظم المسائل ذات الصلة بالسياسة، غالباً ما يُعد المواطنون الأميركيون غير مبالين إلى حد كبير. ومعنى ذلك أن الأغلبية التي نشاهدها في جل استطلاعات الرأي المعروفة تعكس آراء الناس في المسائل السياسية التي ربما لا تخطر على بال أحدهم على الإطلاق. وبخلاف ذلك، يبدو أن الأغلبية الأخرى المشهودة في الانتخابات تتراكم بواسطة الأحزاب المبنية على التحالفات والائتلافات السياسية المعهودة، الضرورية بكل تأكيد لضمان حسن سير العملية الديمقراطية. لكننا حتى في أشد حالات الاستقطاب السياسي بين مختلف القوى السياسية شداً وجذباً، ربما لا نكاد نلحظ وجوداً لتلك الأغلبية بالأساس.
حتى الطرح الأساسي لحجج ويلكنسون يفسح المجال لكثير مما هو مرغوب فيه، إذ يقول مثلاً: «إن اتفقت مجموعة من عشرة أشخاص على مكان بعينه لتناول العشاء، فإن الخيار الذي يترك ستة منهم محبطين هو بكل تأكيد أسوأ من الخيار الذي يترك أربعة منهم فقط محبطين». ولكن كيف تسنى طرح الخيار على الطاولة في المقام الأول؟ هل هناك قائد مندفع أو ربما انتهازي لتلك المجموعة، أو ربما قلة من معتادي التذمر الذين يفضل الجميع استرضاءهم بالتزام السكوت؟ ماذا لو لم يشعر الأربعة الخاسرون الآخرون بخيبة أمل فحسب، وإنما أعلنوا اعتراضهم لاعتبارات مرضية أو قيود دينية؛ تلك التي تجعل من خيار الأغلبية المفروض عليهم غير مقبول في المقام الأولي؟ وماذا لو أن المجموعة بأكملها قررت الخروج في كل يوم خميس... هل ينبغي على الأربعة الآخرون أن يعيدوا ترتيب حياتهم للاتفاق مع قرار الأغلبية الذي لم يعبأ بهم؟ ربما تتوصل مجموعة من الأصدقاء الحقيقيين إلى حفنة منوعة من الاستنتاجات المختلفة إزاء الطرح السابق، غير أنني أجدني غير مقتنع بأنَّ أياً من الحلول المتصورة سوف يكون سيئاً بشكل واضح.
وبطبيعة الحال، ومع انتقال التصويت من مجموعة الأشخاص العشرة إلى شعب يتجاوز تعداده 300 مليون نسمة، مع اتساع المجال والنظام السياسي من مجرد اختيار مطعم لتناول وجبة العشاء إلى كثير من الأمور ذات الأهمية البالغة والتأثير الحقيقي في صياغة وجه الحياة المعاصرة الحديثة، فإن الآليات المعتمدة اللازمة لفرز وتفنيد كل هذه الأمور تتسم بالتعقيد البالغ الشديد.