ديفيد ليونهارت
TT

الانسحاب الأميركي وجَلْد المرأة الأفغانية

لقد حملت حرب أفغانستان في 2001 أهدافاً نبيلة للقضاء على خليط من التنظيمات الهمجية البربرية أبرزها «القاعدة» وهزمتهم وحررت المجتمع الأفغاني والنساء من أسوأ معاملات الاضطهاد في القرن العشرين. من أكثر المشاهد التاريخية إشراقاً رؤية كيف أُخرِج مجتمع من أكثر الأوقات ظلاماً إلى النور. نتذكر المشاهد السعيدة لعودة الحياة لطبيعتها في كابل، حيث تحرر الناس وأصبحوا يرتدون الأزياء المفضلة لديهم ولا أحد يجبرهم على إطالة لحاهم وتعالت أصوات الموسيقى في الأجواء.
لكن هذه الحرب تحولت مع الوقت إلى ورقة سياسية داخلية في يد قادة الولايات المتحدة وأعضاء الكونغرس لأهداف في غالبيتها محلية. لقد سعى الرئيس أوباما لتخفيض كبير للقوات الأميركية بأقصى سرعة قبل الانسحاب الكامل، ولكنه واجه معارضة شرسة من المؤسسة العسكرية. وفعل الرئيس ترمب ذات الشيء بغية دعم شعبيته المتضررة من وباء «كوفيد»، ولكن لم يسعفه الوقت وخرج من البيت الأبيض. وقام بايدن مؤخراً بتحقيق الوعد بالانسحاب الكامل في شهر سبتمبر (أيلول) القادم.
بعد إعلان بايدن انتشر بالمصادفة فيديو جديد لعناصر من جماعة «طالبان» وهم يُجْرون محاكمة لامرأة ملفعة بالكامل بالخمار الأزرق ويقومون بجلدها على ظهرها من دون أن تلقى استغاثتها أي تعاطف من الحاضرين. إن هذا المشهد يحمل في طياته بلا شك الواقع القادم في هذه البلاد المنكوبة، حيث ستعود «طالبان» بشكل أقوى وسيتعرض مزيد من الناس للاضطهاد خصوصاً النساء. إن هذا الانسحاب سيترك خلفه أزمة أخلاقية عميقة ويهز الثقة بالقوى المدنية التي تتصرف في انتهازية فاضحة تاركة ملايين الناس يواجهون وحدهم أقسى التنظيمات الإرهابية وأكثرها بربرية.
لقد برّر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الانسحاب بأنهم سيراقبون أفغانستان من الأقمار الصناعية. إنه مخرج اعتذاري ولكنه ينافي الحقيقة المعروفة في الحرب على الإرهاب، وهو أنه يجب الضغط على الجماعات المتشددة في ملاذاتها الآمنة بشكل مستمر حتى تمنعها من تنفيذ عمليات إرهابية على نطاق واسع. وهذا ما حدث في 2001 في عمليات 11 سبتمبر عندما وجدت «القاعدة» لسنوات الملاذ الآمن وزادت من قوتها ورفعت من احترافيتها حتى نفّذت عملياتها الكبيرة في أماكن متعددة. المراقبة من الجو لم تكن قادرة على القضاء على تنظيم «داعش» رغم تمدده على رقعة جغرافية واسعة. فقط عندما تمت محاصرته تم القضاء عليه.
الانسحاب القريب سيُفضي على الأرجح إلى خطأ استراتيجي لأن التنظيمات الإرهابية ستختار، كما كانت دائماً، أفغانستان البعيدة وجهتها المفضلة لإعادة ترتيب صفوفها، وستكون محطة انطلاق جديدة لهجمات أخرى. ويشكل الانسحاب أيضاً هزيمة في أعين المتعاطفين معها، الأمر الذي سيزيد وتيرة التجنيد. في مقاله في مجلة «فورين بوليسي» ذكر جون بولتون المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، أن هناك خطأ في طريقة التفكير حول الحرب على الإرهاب التي يُنظر لها بطريقة قاصرة. إنها حرب استراتيجية مفتوحة وبلا نهاية تشبه الحرب على الشيوعية التي استمرت لعقود حتى تم القضاء عليها. ولكن الحرب على الإرهاب تعرضت دائماً للابتزاز من اللاعبين السياسيين المحليين الذين يستغلون ملل الأميركيين في الداخل من الحروب الضرورية لزيادة شعبيتهم وضمان إعادة انتخابهم. ولا أحد يتحدث عن إعادة القوات الأميركية المتمركزة منذ عقود في ألمانيا وكوريا الجنوبية لأنها لا تحقق أي منافع انتخابية سريعة.
إن الانسحاب يشكل خطأ استراتيجياً وهزيمة أخلاقية رغم كل المبررات. ومع رحيل آخر القوات التي قدمت خدمة كبرى للعالم بهزيمة «القاعدة» و«طالبان» وقتل قياداتهما، فإن المرء لا يسعه إلا أن يتخيل آلام ملايين البشر وصرخاتهم كما فعلت تلك المرأة وهي تتلقى السياط على ظهرها من دون أن يهبّ أحد لمساعدتها.