جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بلفاست: أطفالُ السلامِ يُضرمون النيران

المدنُ أنواع. ولكل مدينة تاريخها ومعمارها وتميّز قلقها. ومدينة بلفاست، عاصمة آيرلندا الشمالية، لا تخرج عن هذا السياق العام. قلقُها وأرقُها ينبعان من حقيقتين. أولهما أنّها بهُوّية متنافسٌ عليها. والأخرى تاريخ يُسطّر بالدم. ورغم صغر مساحتها، وقلة عدد سكانها، تشتهر بكونها أكثر مدن العالم أسواراً وجدراناً، شُيدت لتفصل بين ساكنيها من البروتستانت والكاثوليك، أو بالأحرى بين مستوطنيها من أصول إنجليزية، المطالبين بالبقاء في الاتحاد البريطاني، والوطنيين الآيرلنديين، المطالبين بعودتها إلى حضن الوطن الأم آيرلندا. يقيم الأولون في جزئها الغربي، ويقيم الآخرون في جزئها الشرقي. وبين الجزأين المتنافرين، تحولت الكراهية، بمرور الوقت، إلى جدران إسمنتية عالية، لمنع الاحتكاك، وتفادياً لعنف طائفي كان دوماً، رغم كل التحوطات، يجد طريقه إلى شوارعها وأحيائها. مدينة بلفاست، عادتْ مع بداية أول أسبوع، من الشهر الحالي، للاستحواذ على عناوين الصحف، وفي نشرات الأخبار، ووسائل الإعلام الأخرى، نتيجة المظاهرات العنيفة التي اشتعلت في جزئها الغربي، وانسابت نيرانها إلى شرقيها، ثم إلى مدن أخرى. أخبار أعمال العنف في المدينة، لمن يعرفها، ربما لا تحمل جديداً. لكنّها، هذه المرّة، تميّزت بكون من أضرموها ونفّذوها كانوا ممن ولدوا في فترة ما بعد انتهاء الاضطرابات، وبدء مرحلة السلام عام 1998. التقارير الإعلامية الواردة من المدينة تؤكد أن أعمار بعضهم لا تتجاوز الثانية عشرة. أطفال جيلُ السلام، كما يطلقون عليهم في الإقليم، يرتكبون أعمال عنف ضد قوات الشرطة، تذكّر بما كان يحدث قبل عام 1998، وتهدد بتقويض اتفاق سلام هش. كما أن شدة عنفها أثار أسئلة مقلقة، وخلق حالة إرباك لدى السياسيين، في بلفاست ولندن ودبلن وواشنطن وبروكسل. المناشدات الصادرة من العواصم المذكورة، والمطالبة بالتهدئة، لم تجد آذاناً صاغية. وحين توفي زوج الملكة إليزابيث الثانية، في الأسبوع الماضي، توقع كثيرون من المعلقين والسياسيين، أن تؤدي الوفاة إلى توقفها احتراماً وتقديراً للعائلة المالكة في مصابها. وما حدث كان معاكساً. ويبدو أن 23 عاماً من سلام وعد بالكثير، ولم يأتهم بما انتظروه وتمنّوه من وعود، دفع أطفال السلام إلى إعلان حرب، أعادت عجلة الزمن في الإقليم إلى الوراء، وجعلت شوارع المدينة، وغيرها من بقية المدن، تعود إلى سابق عهدها، ميادين لمعارك محزنة. اللافت أن أعمال العنف، هذه المرّة، وعلى غير العادة، لم تقتصر على بلفاست، بل امتدت لتطال مدنا ومناطق أخرى.
هناك من يرجع الأسباب إلى إعلان النائب العام في الإقليم بعدم تقديم مجموعة من زعامات حزب «شين فين» للمحاكم نتيجة خرقهم قوانين الإغلاق العام، كما تقتضي قوانين الإغلاق العام، بحرصهم على حضور جنازة أحد زعمائهم في شهر يوليو (تموز) الماضي. وهناك من يرجع السبب إلى «بريكست»، وقبول حكومة لندن التوقيع على اتفاق تجاري مع بروكسل، فرض وضع حدود بحرية تفصل بين بريطانيا والإقليم، وتعرّض البضائع المتبادلة تجارياً بين الاثنين لضوابط الحواجز الجمركية ومعايير السلامة الغذائية وفقاً للوائح الاتحاد الأوروبي. مما يعني واقعياً أن الإقليم يعامل معاملة تختلف عن غيره من بقية المناطق البريطانية؛ الأمر الذي يرفضه الاتحاديون البروتستانت. التقارير الإعلامية، وصفحات الرأي في معظم الصحف البريطانية المعروفة تميل إلى أن الاتحاديين البروتستانت يشعرون بالإحباط، ويعتبرون أن الحكومة في لندن، قد بدأت تدريجياً عملية التخلي عنهم، وتعريض الإقليم لمواجهة احتمال ضمه إلى دبلن في المستقبل القريب. ويرى معلقون أن ما يزيد في تفاقم هذا الخوف أن التعداد السكاني، الذي أجري مؤخراً، ربما يأتي بإحصائيات متوقعة، قد تفصح عن تحوّل في نسبة أعداد السكان، بما يجعل الكفة تميل لصالح السكان الكاثوليك، بأن يصبحوا أكثرية. هذا الاحتمال مصدر قلق وخوف للاتحاديين. إذ وفقاً لاتفاق السلام الموقع في عام 1998، فإن الإقليم يظل جزءاً من بريطانيا، ما لم تقرر أغلبية السكان عكس ذلك. علماً بأن حزب «شين فين»، يقود حملة قوية، منذ مدة، تدعو لعقد استفتاء حول مصير الإقليم. الجدير بالتنويه، أن رئيسي وزراء أسبقين، هما السيدان جون ميجور وتوني بلير، قاما معاً، قبل عقد الاستفتاء، بزيارة للإقليم، وحذرا الاتحاديين من مغبة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مؤكدين أن ذلك سيقود حتماً إلى تقويض اتفاق السلام، والعودة بالإقليم إلى الوراء. لكن الاتحاديين البروتستانت صدقوا ما قدمه لهم السيد بوريس جونسون من وعود، وأن الحدود لو وجدت لن تكون مرئية. لذلك صوتوا لصالح الخروج. وحين تعقدت المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي للتوقيع على اتفاق تجاري، لم يجد جونسون منفذاً لتحقيق الاتفاق سوى بتراجعه عن وعده للاتحاديين، والقبول بوجود حدود بحرية في شمال آيرلندا، تبين للاتحاديين أنها مرئية جداً. تلك المناورة الجونسونية أفقدت رئيس الوزراء ثقة الأحزاب الاتحادية الرئيسة به، وأوصلتها إلى قناعة بأن السيد جونسون غير مبال بهم، وبالضرر الذي ألحقه بالاتحاد البريطاني. بعد فوات الأوان، أدرك الاتحاديون أن عضّ الأصابع ندماً، رغم ما يسببه من آلام، لن يغيّر فاصلة فيما حدث.