سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرسان البر وأمراء البحار

وجد الإنسان الأول نفسه في بقعة صغيرة من الأرض، وفرح عندما عثر على كهوف محفورة في الصخور، فصار يبيت فيها في الليل، ويخرج إلى الصيد في النهار. ورأى الشمس تغرب في المساء على مقربة منه، فمشى إليها، ولا يزال يمشي إلى اليوم. وبعدما تسلق أعلى قمم الأرض، وأبحر حولها، وقسمها إلى قارات، قرر الخروج إلى مدارها، وأن يتأملها من الخارج، ولما امتلأ مدارها بالأقمار الصناعية والسفن الفضائية، قرر الذهاب إلى القمر، رفيقه في الليالي.
لعل أهم صفة للإنسان، من بين الصفات والتسميات، أنه كائن مسافر يبحث دائماً عن أوطان أخرى. وقبل أن يصبح وسيلته المذهلة في اقتحام المجهول، كانت وسيلته الأولى البطولة والشجاعة. ركب البحار الهائلة على مراكب صغيرة تسير بالمجاذيف وشيء من الرياح، أو تعلو بها الأمواج وتهبط بها العواصف ولا يخيفها خوف أو يوقفها رعب.
طاف هذا المسافر الفضولي في المحيطات، وتحدى الصحاري، وتاه في الغابات السوداء، وصارع الموت برداً أو حراً، واكتشف لنفسه بلداناً وقارات جديدة بعيداً عن كهفه المظلم الأول. وفعل ذلك أحياناً بطريقة مضحكة. فقد أبحر الإيطالي كريستوف كولومبوس ساعياً إلى اكتشاف طريق جديدة إلى الهند بعيداً عن المداخل التي يسيطر عليها العرب، لكن الرياح حملته إلى أهم اكتشاف في تاريخ الكوكب: القارة التي سيطلق عليها اسم أميركا، تيمناً بالعالم الإيطالي فسبوتشي أميريغو، الذي كان أول من وضع مصطلح «العالم الجديد».
بعد المركب والشراع توصل هذا المسافر الأزلي إلى تطور هائل في رحلته عبر الأرض: الخريطة! لم يعد يضرب في المجهول، بل عرف منذ البداية كيف يرسم لنفسه خطوطاً وهمية متخيلة ما لبثت أن تحولت إلى طرق حقيقية يتبعها في الأرض والجو والبحار.
وماذا لم يفعل لكي يمتطي فرس الاكتشاف. وفي القطب المتجمد، حيث لا تستطيع الخيول العمل، ركب زلّاجات تجرها الكلاب. ومضت بعثات من الشجعان الأشداء إلى اكتشاف القطبين، الشمالي والجنوبي: أطباء ومهندسون وعلماء. وقد قضى كثيرون منهم، بعد أن مهدوا لمن بعدهم الطريق، ورسموا الخرائط وتركوا وصفاً مفصلاً لتلك المغامرات الملحمية فائقة القدرة والطاقة والصمود. إما لأهميتها الاكتشافية أو الجغرافية أو العلمية أو السياسية. وهي ليست موصولة ضمن إطار واحد أو سياق واحد أو قاعدة واحدة. إنها بالأحرى أشبه بـ«مختار» الأسفار، وليس بقاموسها، وأرجو أن يكون الاختبار في مستوى الموضوع، والمتعة موازية للمعرفة.
تعودنا، كل رمضان كريم، أن نقدم لجنابكم، مسلسلاً تحت عنوان واحد. آمل أن يرضيكم مسلسل هذا العام، وكل عام وأنتم بخير وعافية.
إلى اللقاء..