نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

لماذا يُهمل لبنان؟

تبدو أبواب العرب مفتوحة للعراق ومقفلة بوجه لبنان. الحفاوة التي لقيها الرئيس العراقي مصطفى الكاظمي في الرياض وأبوظبي، والتنسيق المستمر بين العراق والأردن ومصر، يلقيان ضوءاً كاشفاً على مستوى العزلة العربية التي يعانيها لبنان.
كما لبنان، العراق ساحة نفوذ إيرانية رئيسية. بدلاً من ميليشيا «حزب الله» تمارس طهران نفوذها عبر عشرات الميليشيات داخل ما يسمى «الحشد الشعبي» وخارجه، وعبر لفيف من السياسيين والأحزاب ورجال الدين والتجار الشيعة والسُنة والكرد. وأكثر من لبنان، ترتاح إيران، في العراق، إلى تظهير نفوذها العسكري عبر زيارات دائمة لخليفة قاسم سليماني، الجنرال إسماعيل قاآني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري». قاآني زار العراق بعد جولة الكاظمي الخليجية، والتقى قادة الميليشيات، في تناقض صارخ مع صورة العلاقة الدولية السيادية بين العراق وجيرانه العرب.
وكدولة حدودية لإيران، فإن حجم التداخل الاقتصادي مع العراق أكبر بكثير منه مع لبنان، أكان لجهة تزويد العراق بالكهرباء، في ظل إعفاءات خاصة من العقوبات الأميركية على إيران، تصدرها واشنطن كل 120 يوماً، أو لجهة كون إيران مصدراً رئيسياً للبضائع الواردة إلى العراق، بحجم تجاري يبلغ نحو 12 مليار دولار.
وأكثر من لبنان تستحوذ ميليشيات إيران في العراق بشكل مباشر على الكثير من وجوه النشاط الاقتصادي، حسبما كشفت دراسة أعدها الباحث هشام الهاشمي ودفع حياته ثمناً لها ولغيرها من نتاجه البحثي الرصين. يكشف الهاشمي في دراسته هذه عن تفاصيل الاستيلاء التدريجي من قبل الميليشيات، عبر توسل إعادة الإعمار والمصالحة بعد حرب أهلية، ويخلص إلى أن هذا الاستيلاء الممنهج هو خليط من حرب أهلية طائفية، وجريمة منظمة، وهيمنة إيرانية على البلاد.
يتوسع الهاشمي، رحمه الله، في تفاصيل سيطرة الميليشيات على الجمارك ومشاريع البناء وقطاع النفط، والخدمات العامة والصحية والتعليمية والسياحية، وغيرها من قطاعات الإنتاج.
في سياق دراسة الهامشي، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تحقيقاً استغرق إعداده ستة أشهر يميط اللثام عن كارتيل فساد متشابك يدير على طول الحدود البرية والبحرية للعراق، عمليات تهرّب جمركي معقدة، ويستولي، بنتيجتها، على ملايين الدولارات التي يفترض أن تدخل خزائن الحكومة، وتذهب بدلاً من ذلك إلى جيوب أحزاب وجماعات مسلحة ومسؤولين يدورون في فلك إيران. ويقدر الكاظمي خسائر العراق الجزئية السنوية جراء ذلك بنحو 3 إلى 4 مليارات دولار.
بإزاء هذه الوقائع، قد يستغرب البعض أن تنفتح عواصم عربية على العراق، بالمعنى التعاوني التفصيلي، وتبقي أبوابها مقفلة في وجه لبنان، فيما عدا زيارات شخصية لبعض المسؤولين فيه. وهو استغراب مشروع للوهلة الأولى، وقبل التدقيق في التفصيل الأساس، وهو أداء الرئيس كاظمي نفسه وأداء الحكومة العراقية.
في لبنان حكومة مستقيلة شكّلها «حزب الله» وحلفاؤه، وقوى سياسية وجدت في معارضة رئيس الجمهورية وصهره ورئيس حزبه جبران باسيل بديلاً عن المعركة الأساس في وجه «حزب الله» كقوة احتلال سياسي. هذه التعمية على المشكل الرئيسي والتحايل لتغطيتها بمشكل رديف مع عون - باسيل، هو ما لم تسقط فيه حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. ببساطة شديدة وضع الرجل الآتي من المخابرات إصبعه على الجرح، طالباً في رسالة علنية غير مسبوقة من إيران أن تكبح جماح مرتزقتها في العراق. ووضع في سلم أولياته تنويع علاقات العراق التجارية والاقتصادية والخدماتية لتخفيف وطأة الاعتماد على إيران، والكف عن تحويل العراق إلى باب خلفي لإيران للتهرب من العقوبات الأميركية، على حساب دمار الدولة العراقية وماليتها العامة والمزيد من تعفن إدارتها.
صحيح أن حكومة الكاظمي التي تقترب من إتمام سنويتها الأولى، تحمل مهمة إجراء انتخابات نيابية مبكرة، إلا أن الرجل أخذ على عاتقه، بسلوكه السياسي، أن يقدم نموذجاً لرئيس حكومة عراقي غير متحدر من الأحزاب الدينية أو من القوى المتشكلة بعد 2003، ويفتتح نادياً لسياسيي الجيل الثاني من القيادات الشيعية. وهذه نقطة فصل مفقودة في لبنان الذي لا تزال تلوك فيه الحياة السياسية وأزماتها ذات المجموعة السياسية، وإن باصطفافات متغيرة باستمرار.
الحقيقة أن ولادة الكاظمي جاءت في مناخ من الانتفاضة الشعبية الجذرية ضد النفوذ الإيراني، لا سيما في الأوساط الشيعية الشبابية في العراق، وفي مناخ غليان الشارع الإيراني نفسه اعتراضاً على سوء أحواله، وبعد ضربة مؤذية ومهينة للنفوذ الإيراني تمثلت بالاغتيال العبقري لقاسم سليماني، وفي لحظة التقاء شجاعتين على الساحة العراقية: شجاعة المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني، وشجاعة الرئيس العراقي الكردي برهم صالح، للبناء على هذا المناخ، وإحداث قطيعة مع سياقات ولادة الحكومة العراقية كما كانت سائدة منذ 2003.
كل ذلك غير متوافر في لبنان، حيث وقعت ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) في فخ تحييد «حزب الله» في البداية قبل أن تعود وإن منهكة، بعد انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب)، إلى تحميل «حزب الله» مسؤولية الانهيار الذي تعانيه الدولة اللبنانية والتي يديرها «حزب الله» عبر منظومة تحالف «المافيا والميليشيا».
من غير الواضح ما إذا كانت تجربة الكاظمي تمثل بالفعل قطيعة نهائية مع مسارات سابقة وتفتح مسارات جديدة في الحياة الوطنية العراقية. فالفشل والانهيار يتربصان بهذه التجربة لأسباب اقتصادية خارجة عن إرادة وقدرة الكاظمي لوحده. احتياط العراق من العملات الأجنبية يتبخر بسرعة. احتمال الاضطرار إلى تعويم الدينار العراقي واردة مع ما سيستتبعه في تضخم بأسعار المواد الأساسية. العجز في الموازنة يتراوح بين 3.5 و4.5 مليار دولار شهرياً، بموازاة تضخم مريع في حجم القطاع العام (5 مليارات دولار شهرياً رواتب وبدلات تقاعد)، وتكلفة الخدمات (مليارَا دولار).
لكنها محاولة جادة تحرّض على الوقوف معها وإسنادها، على ما ظهر في الاستعدادات الاستثمارية لكل من الرياض وأبوظبي. في المقابل، فإن كل ما في لبنان يحرّض على إهمال هذا الوطن الصغير، الذي دفع ثمن سوء الحظ، وعدم الانسجام بين أولوياته وأولويات محيطه العرب مرتين. فقاتل وقُتل حين كان المزاج العربي تسووياً، واستسلم وقُتل حين صار المزاج العربي مزاج مواجهة!
ثمة الكثير ليتعلمه لبنان من التجربة العراقية الجديدة. المفارقة، أن العراق هو من يتعلم من التجربة اللبنانية بمآلاتها المرعبة التي وصلت إليها.