سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ملكته وأميرها

عذراً على بعض الإعادة، اقتضاء الحدث. شاهدتُ الأمير فيليب، دوق إدنبرة، مرة واحدة، والتقيته مرة أخرى. في الأولى، عام 1964. كنت أغطي في نيروبي، يوم الاستقلال. امتلأت العاصمة الكينية بألوان القبائل الآتية من أنحاء البلاد. ألوف الناس يرقصون ويغنون ويهزجون في الساحات. أما الاحتفال الرسمي فأقيم في حديقة بسيطة، وضعت فيها كراسي بلاستيكية بيضاء. كان هناك خطابان رئيسيان: خطاب الحرية، وقد ألقاه زعيم الماوماو جومو كينياتا. وخطاب الاستقلال، وقرأه الأمير فيليب.
أي مشاعر تريد أن تخامر شاباً قادماً من الشرق العربي، وهو يسمع رجلاً عملاقاً يقول: «كلفتني جلالة الملكة». امرأة تكلف رجلاً؟ وا أسفاه على الرجولة. بعد أكثر من ثلاثة عقود، جاء أمير الكويت والتحرير، جابر الأحمد، في «زيارة دولة» إلى بريطانيا. أي ضيف الملكة. ووفقاً للتقاليد، أقامت مأدبة عشاء تكريماً له، وردّ بمأدبة مماثلة. كان ضيوف الراحل الكبير قلائل جداً في قاعة متوسطة. ولم يكن من الصحافيين العرب سوى الزميل سليم نصار وأنا.
بعد العشاء الهادئ قامت الملكة إليزابيث والأمير فيليب عن المائدة لكي يفتحا باب الحوار أمام الحضور. ووقف الثنائي الملكي إلى جانب سليم وأنا، يتأملان لوحة على الجدار. وألقيا علينا التحية. عندها قلت للأمير: «سموك، أنا أعرفك من نيروبي أيام الشباب، يوم ألقيت خطاب الاستقلال باسم جلالتها». وكمثل ما يُحكى عنه، مد يده، ولكعني في صدري قائلاً: تحدث عن نفسك! وضحك الجميع.
إنها المهنة التي تعرِّفك إلى الملوك. وإذا ما رسخت فيها، تعرفك إلى دوق إدنبرة شاباً، ويجمعك به أمير حبيب، وأنت كهل. ويصبح سهلاً عليك أن تصافح صاحبة التاج الأسطوري، بل يمكنك أن تكون، يوم غياب الدوق، واحداً من قلة من الناس الذين يمكنهم القول، إنهم جلسوا مع الملكة إليزابيث الثانية، إلى مائدة واحدة.
لم تكن للأمير فيليب صفة رسمية. ويتفاكه الإنجليز بالقول إن صفته الوحيدة، أنه أخلص رعايا الملكة. وربما كان أيضاً الرجل الوحيد الذي يناديها إليزابيث. وعندما توفي زوج الملكة فيكتوريا، قالت في حسرة: فقدت الرجل الوحيد الذي كان يناديني فيكتوريا.
كاد زوج إليزابيث الثانية يكمل المائة، لو أعطي شهرين إضافيين. لكن ما تسنى له من القرن، عاشه يرقب التاريخ ويترقبه، من أقوى البروج والعروش في العالم. وفي باكنغهام رأى أن مملكة اليونان التي جاء منها، لم تعد شيئاً. ولا عاد مهمِّاً اسمه اليوناني، الذي حمله فيليب الثاني، والد الإسكندر.
لم يكن الأمير فيليب زوجاً ملكياً فقط، بل كان أباً أيضاً. وكان ركناً في عائلة واجهت الكثير من المحن، التي ربما أصعبها المأساة الطويلة في مسلسل الأمير تشارلز وديانا. وكما هو العالم وكما هي الحياة، تنقسم أخبار أهل التاج الأسطوري على الدوام، إلى أخبار الحكم والاستمرار، وأخبار ديانا وميغان. الأمير الراحل كان من حُماة العرش.