خالد البسام
كاتب ومؤرخ بحريني
TT

غيرة وحسد

من قال إن الغيرة والحسد يتراجعان بين الناس اليوم؟
قرأت تقريرا عجيبا في الإنترنت أعده معهد نفساني أميركي متخصص وجد أن وتيرة الحسد والغيرة تزداد بشكل غير معقول في السنوات الأخيرة، وأن تلك الاعترافات جاءت من جنسيات مختلفة، وليسوا من الأميركيين فقط، بل من آسيويين وأوروبيين وحتى عرب. واعترف أكثر من خمسمائة شخص تقريبا من الجنسين بأن تلك المشاعر العدائية داخلهم صارت تشكل جزءا كبيرا من وجدانهم، وحتى من قلوبهم.
وعندما حاول التقرير نبش الأسباب تبين أن غالبية هؤلاء يرون أن هناك بشرا في العالم يسببون لهم هذا الأذى، والكثير منهم تافهون ولا يستحقون شيئا، ومع ذلك حصلوا على الكثير من الامتيازات والمناصب دون عناء أو تعب أو كفاح.
أما الغيرة فقد جاءت من عدم عدالة الحياة، وعدم عدالة توزيع الثروات وتساوي الفرص بين الناس، فإن كثيرا ممن يستحقون اليوم لا ينالون حتى واحدا في المائة من حقهم.
أعترف بأن الحسد والغيرة كعاطفتين إنسانيتين، واللتين لا بد منهما أحيانا، هما مشكلتان كبيرتان، فهما يمكنهما أن يتسببا في مآسٍ لا تعد ولا تحصى، بل ويستطيعان أن يدمرا مبادئ وقيما جميلة لا نستطيع العيش من دونها مهما حاولنا ذلك.
المؤلم اليوم أن هناك أنواعا من البشر راحت تصور لنا الحياة عن أنها مجموعة من القيم الانتهازية والوصولية التي يجب على الإنسان أن يتسلق إليها ويحاول بكل الوسائل الرخيصة أو الشريرة كي ينالها، وليست المشكلة تكمن في ذلك فقط، بل إن هؤلاء صاروا يعطون دروسا في الانتهازية والخيانة وعدم الأمانة والاستفادة من كل شيء عن طريق أي شيء ومهما كان الثمن. فلا هناك عقوبات تذكر، ولا هناك احتقار منتظر ولا تأنيب ضمير، بل الغريب أن يأتيهم فوق ذلك أناس تمتدحهم وتفتخر بأعمالهم وبطولاتهم التي لم يستطع أحد غيرهم القيام بذلك.
لكن هل الغيرة والحسد موجودان في القلوب الضعيفة وغير السوية فقط؟
الواقع، أنهما موجودان في جميع أنواع القلوب حتى القوية منها. لكن الأهم من وجودهما هو استمرار الأسباب التي تسمح بعدم التوقف، وبوجود هذا الكم الهائل من الظلم الذي نراه في كل يوم في هذا العالم.
كذلك تلك العدالة الغائبة واختفاء المساواة، وكلها دعت المشاركين إلى أن يثوروا عن طريق الغيرة والحسد بعدما سدت الأبواب في وجوههم للتعبير عن غضبهم وسخطهم.
هناك على غير هذا الوجه القبيح من الدنيا أنواع من الغيرة والحسد الإيجابيين، واللذين ينميان كل شيء إيجابي عندنا، سواء في قلوبنا أو عقولنا.
فعندما يحقق مكافح فقير نجاحا كبيرا في علمه فإنه يود أن يقول لهم: غيروا مني، وبالتالي افعلوا مثلي فلن تخسروا شيئا. وكذلك عندما نستطيع أن نحسد شيئا جميلا، فإذا تحول هذا الحسد إلى عمل إيجابي فهذا هو قمة الجمال والعمل الرائع.
غير أنني في النهاية لا أدعو القراء اليوم إلى أن يجلسوا في بيوتهم وينتظرون أن يطرق عليهم الحسد أو الغيرة الباب كي يقوموا بعمل جميل أو شرير، فقبل أن تطرق الأبواب علينا فتح النوافذ!