توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني؟

بلدنا واحد من بلدان قليلة في العالم تشهد حديثاً متكرراً عن عدم مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل. وخلاصة هذا الحديث، أنَّ الآلاف من طلبة الثانويات والجامعات الذين ينهون دراساتهم كل عام، لا يحصلون على وظائف بصفة مباشرة؛ للقيام بالمهن والأعمال المطلوبة.
قد تكون هذه الدعوى صحيحة وقد تكون خاطئة. ما يثير الغبطة هو دلالتها على اهتمام الناس بنظام التعليم ورغبتهم في تطويره. وهو اهتمام يضع المسؤولين عن هذا النظام أمام تحدٍ يومي. إنَّه لأمر طيب أن يواصل الناس مطالبتهم بتحسين الخدمات العامة، سيما من هذا النوع الذي له دور حاسم في تحديد مستقبل البلد. ومن هنا، فإنّي أستطيع القول من دون تردد، أنَّ نظامنا التعليمي الآن أفضل بمراحل مما كان عليه قبل عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً.
الربط بين التعليم وسوق العمل، هو العامل المحرك لقيام التعليم الرسمي واستمراره. ولولا أنَّ المدارس توفر قوة عمل مناسبة (وهذه بدورها توفر المداخيل للحكومات) لما أنفقت الدول الأموال على بناء المدارس، وتوظيف المعلمين وتوفير التعليم المجاني. لولا حاجة سوق العمل إلى قوة عمل مدربة، لبقي التعليم – كما كان في القرون الغابرة – امتيازاً لشريحة صغيرة من الناس فحسب.
يهمني أيضاً الإشارة إلى نقطة وجدتها جديرة بأن تقال، وخلاصتها أنَّ دعوى المواءمة بين مخرجات التعليم وحاجات سوق العمل، لا تقتصر على بلد بعينه. خلال السنوات الثلاث الماضية قرأت تقارير عن سبع دول صناعية على الأقل (بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبية) تتحدَّث عن «قلق» بين كبار المسؤولين والمخططين، من عجز النظام التعليمي عن الاستجابة للتحولات السريعة التي تشهدها أسواق العالم. وأذكر على سبيل المثال أن مسؤولاً رفيعاً في بريطانيا استشهد بتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2015) يكشف عن تفوق طلبة سنغافورة وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية في الرياضيات على نظرائهم الأوروبيين كافة. وقال المسؤول (ولعله وزير الدولة المكلف الجامعات)، إنَّ هذا لا يمثل خطراً فورياً، لكنَّه يشير إلى المخاطر المحتملة في العشرين عاماً المقبلة، حين يتحول قطار الاختراع والإبداع إلى البلدان الأكثر تقدماً في الرياضيات والعلوم والحوسبة.
أرجو أن يلتفت القارئ العزيز إلى فحوى كلام الوزير البريطاني، والفارق بينه وبين الحديث المكرر عندنا. فنحن نتحدَّث عن وظائف لأبنائنا اليوم، بينما يتحدث هو عن الإبداع والاختراع غداً. دعني أعبّر عن هذه الفكرة في تطبيق مختلف:
إنَّ معظم الآباء يريدون إعداد أبنائهم كي يحصلوا على وظائف ذات أجور مجزية، بحسب المعطيات والمعايير التي يرونها أمامهم اليوم. وهم ينظرون للمسألة من زاوية شخصية، فحواها أنَّ ضمان المستقبل يكمن في وظيفة مريحة بأجر جيد (أي أنَّ هناك شخصاً آخر سيتحمل مسؤولية توفير الراتب لأبنائهم).
أما الوزير فيتحدث عن سياق مختلف، هو ما سمَّيناه في مقال الأسبوع الماضي «صناعة السوق». بعبارة أخرى، فإنَّنا أمام خيارين: أولهما أن نعدّ أبناءنا لشغل الوظائف التي تعتبر جيدة في هذا اليوم. الآخر، أن نعدَّ أبناءنا كي يكونوا صناعاً ومبدعين ورجالَ أعمال يقررون اتجاه السوق وحاجاتها. في الخيار الأول السوق القائم هو الذي يحدد اتجاهات التعليم. في الخيار الآخر نظام التعليم هو الذي يحدد اتجاهات السوق وحاجاته بعد عشر سنين أو عشرين سنة.
أظنُّ أنَّ ما ينبغي أن نسعى إليه على المستوى الوطني قد بات واضحاً الآن. المهم أن نختار ونقرر بأنفسنا لأنفسنا، بدل أن ننساقَ في خيارات يقررها آخرون.