خلال عطلة هذا الأسبوع شاهدت فيلماً وثائقياً بعنوان «عيوني» كان مؤثراً للغاية، ويدور حول قصة البحث عن رجلين بين أكثر من 100 ألف مختفٍ قسرياً في سوريا.
بالنسبة لأمثالي ممن تابعوا من الخارج عشر سنوات من الألم داخل سوريا، يبدو فيلم «عيوني» تجربة شديدة الألم تكشف حجم الخوف الذي يكابده آلاف السوريين الذين تعرضوا للسجن والتعذيب، وكذلك الألم الذي يعتصر قلوب أحبائهم وذويهم. وقد ترك هذا الفيلم بداخلي شعوراً بالحزن والغضب الشديدين، لكنَّه حمل معه كذلك إلهاماً كبيراً بفضل ما أبداه أولئك الساعون لإقرار العدالة وكشف الحقيقة من العزيمة والثبات والإصرار.
إنَّ الشعب السوري يستحق القدر نفسه من العزيمة والسعي الحثيث وراء العدالة ومحاولة زرع الأمل من جانب أصدقائه في العالم.
وخلال الأسبوعين الماضيين، كُتب وقيل الكثير بمناسبة ذكرى الثورة منذ مارس (آذار) 2011، عندما خرج الناس إلى شوارع درعا في مظاهرات سلمية يدعون إلى إطلاق سراح تلاميذ إحدى المدارس الذين أُلقي القبض عليهم لكتابتهم عبارات سياسية على أحد الجدران. وكان الاعتقال التعسفي لهؤلاء الأطفال والتعذيب الذي تعرضوا له أول مؤشر على وحشية النظام، واستعداده للانقلاب ضد شعبه، وفعل أي شيء لضمان البقاء في السلطة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت عمليات الاختطاف والاحتجاز غير القانوني من بين الأسباب الجذرية وراء الصراع الدائر ومن الملامح الأساسية له. ولا يزال عشرات الآلاف من الرجال والنساء والفتيان والفتيات مختفين قسرياً حتى اليوم، بعد مرور عشر سنوات على أول حملة اعتقالات جماعية. كما يعيش مئات الآلاف في ألم لجهلهم مصير أحبائهم. ولا يزال السوريون يعانون من التعذيب والقمع والفساد على يد النظام. ويكشف تقرير أصدرته الأمم المتحدة مؤخراً حول المفقودين (تقرير اللجنة الدولية المستقلّة المنبثقة عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان حول الاحتجاز في سوريا) الحجم الهائل لتلك الانتهاكات.
لقد دنّس النظام السوري القواعد والأعراف الدولية التي تضع الكرامة الإنسانية والعدالة في المرتبة الأولى، ولا ينبغي أبداً مكافأته بالإفلات من العقاب. وتواصل المملكة المتحدة وشركاؤنا في المجتمع الدولي المطالبة بإطلاق سراح أولئك الذين جرى احتجازهم على نحو غير قانوني، وإتاحة المعلومات اللازمة حول أماكن احتجاز المفقودين ومصيرهم، وإقرار العدالة وتقديم المساعدة لأسر الضحايا.
لا يمكن أن يتحقق حل عادل وسلمي في سوريا من دون إحراز تقدم على صعيد هذه القضية ومعالجتها في إطار عملية سياسية يقودها السوريون وتدعمها الأمم المتحدة. وليس هناك سبيل واقعي نحو السلام المستدام حتى يشارك النظام بنية صادقة في عملية لتعزيز وقف إطلاق النار بمختلف أرجاء البلاد، وفتح الطرق أمام توصيل المساعدات، وتوفير الظروف التي تسمح بالعودة الطوعية والآمنة والكريمة للاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بمجرد التصديق على دستور جديد، بموجب ما دعا إليه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
وعلى صعيد آخر، فإنَّ عشر سنوات من العنف وممارسات النظام القائمة على محاباة الأقارب والفساد تسببت في انهيار الاقتصاد إلى حالة يُرثى لها، بينما يعيش ملايين السوريين بعيداً عن بيوتهم. ومقارنةً بالعام الماضي، انضم 4.5 مليون سوري إلى قائمة الذين ليس لديهم ما يكفيهم من الطعام. وحتى الأسد نفسه يدرك أن سلوكه الشخصي، وليست «العقوبات الغربية» –إلى جانب تداعيات الأزمة القائمة في لبنان– هو السبب وراء تسارع وتيرة انهيار الاقتصاد.
من جهتها، تقف المملكة المتحدة إلى جانب أكثر عن 13 مليون سوري، معظمهم من النساء والأطفال، بحاجة إلى مساعدات لإنقاذ حياتهم. وبوصفها واحدة من كبرى الدول المانحة استجابةً للأزمة السورية، أنفقت المملكة المتحدة ما يزيد على 3.5 مليار جنيه إسترليني حتى اليوم، ما يشكّل أكبر استجابة من جانبنا على الإطلاق تجاه أزمة إنسانية واحدة.
ومع هذا، لن تجدي أي مساعدات دولية مهما بلغ حجمها إذا لم تصل إلى مّن يحتاجون إليها بحق. وعليه، يجب على جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الموافقة على قرار حيوي بشأن هذا الأمر خلال الصيف لضمان إمكانية إيصال مساعدات ضخمة بأمان وبشكل مستمر عبر الحدود السورية؛ وأي شيء دون ذلك سيكون بمثابة عار يلحق بمن يعارضون القرار. كما ندعو مَن يسيطرون على أراضٍ داخل سوريا لإتاحة إمكانية الحصول على المساعدات دونما عائق أينما كانت توجد حاجة إليها.
بالعودة إلى فيلم «عيوني»، هناك جملة مؤثرة حين قالت سيدة ممن ظلوا داخل سوريا إنها «تجازف بالتمسك بالأمل». ما من شك أن هذا الأمر يزداد صعوبة يوماً بعد آخر، ولكن شجاعة أولئك الذين كافحوا لأجل العدالة والكرامة هي شعلة مستقبل سورية التي لن يخبو وميضها.
وقد شعرت بالانبهار لدى مقابلتي نشطاء من بعض المنظمات السورية والدولية الإنسانية والمعنية بحقوق الإنسان التي تعتز المملكة المتحدة بدعمها. لقد كرّس هؤلاء الأشخاص حياتهم لتوثيق حالات المفقودين والمحتجزين، وتقديم العون لأسر الضحايا، والسعي وراء كشف الحقيقة وإقرار العدالة وتحقيق المحاسبة عن كل الانتهاكات التي يقاسي منها الضحايا وأحباؤهم.
ويتعين على المجتمع الدولي وأصدقاء سوريا إبداء القدر ذاته من الشجاعة، والتحلي بالجرأة في التمسك بقناعاتنا، وعدم السماح بأن يسود الإفلات من العقاب، وأن نفعل كل ما في وسعنا لمساعدة السوريين على السيطرة على مستقبلهم، والاستمرار في دعم من بإمكانهم إعطاء سوريا حياة سياسية جديدة تنعم بالسلام والازدهار والعدل.
*ممثل بريطانيا إلى سوريا - خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:7 دقيقه
TT
السوريون مثال نستقي منهم شجاعتنا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة