د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

تحدي الإيجاز

حينما سُئِل عميد النثر العربي الجاحظ: ما البلاغة؟ قال: «الإيجاز». وعندما انطلق تطبيق كلوب هاوس (المنتدى الصوتي) الهاتفي، وجد كثيرون من العرب أنفسهم أمام تحدٍ جديد وهو ضرورة الإيجاز الشفهي. ولحسن الحظ كنا كعرب بارعين في الكلام الوجيز (رديف البلاغة)، وهو ما يفسر ولعنا بديوان الشعر، والحكمة التي ما زلنا نعتبرها «ضالة المؤمن».
ومن أبرز وسائل إيصال المعلومات ببلاغة في أدبيات الإدارة ما يطلق عليه elevator pitch أو «حديث المصاعد». وهي محاولة ترتكز على فكرة أنه إذا لم نستطع التعبير عن أنفسنا في غضون ثلاثين ثانية فقد نهدر فرصاً ثمينة لافتقارنا لمهارة «حديث المصاعد».
وقد تنامت الحاجة لممارسة «تحدي الإيجاز» بعد تزايد وسائل التواصل المرئية والمسموعة وتعدد خيارات الناس بصورة مذهلة والتي تبحث عن «الزبدة». فمن لا يدخل في صلب الموضوع يخرجنا من دون أن يشعر من دائرة الاهتمام بأطروحاته. ولذا جاء مؤتمر الخطب الملهمة TED متماشياً مع هذا «السر» الذي يكمن في بلاغة الإيجاز، وهي محاولة لتفادي «تشتت التركيز» الذي اجتاح عصرنا.
وربما من أسباب تدهور تركيزنا ما ذهب إليه باحثون من جامعة لندن عندما تعمقوا في قضية تذبذب «مدة انتباه» الإنسان لما يجري حوله أو ما يسمى بالـattention span فبدأوا بدراسة قبيلة نائية في أفريقيا، حافظ أهلها على البقاء في الريف، وقبيلة أخرى انتقل أفرادها للعيش في مناطق حضرية، أظهرت النتائج ما «فاق توقعات» الباحثين.
فقد لوحظ أن القبيلة المتمدنة (الجماعات الحضرية) أظهرت صعوبة في الانتباه في اختبارات متنوعة أعدت لهم، مقارنة بأفراد القبيلة التي حافظت على بقائها في الريف. وتبين أن من أسباب ذلك أن «الناس في المجتمعات الحضرية يتمتعون بمحفزات تنبيه أكثر، حيث يتحلون بإفراط من حيث استخدام البصر والأصوات»، وهو أحد العوامل التي تشتت تركيزهم، وفق تقرير نشرته «بي بي سي».
والعجيب أن للإنسان مقدرة على أن يتخطى حواجز التركيز إذا عرف أنه سوف يتناهى إلى أسماعه أمر مهم في كلمات وجيزة. وهو ما فعلته الفلسطينية نظيرة البرغوثي عندما تفوقت على الغربيين في عقر دارهم، بفوزها عبر جامعة ساوثهامبتون بالمركز الأول في مسابقة أجريت على مستوى بريطانيا؛ إذ شرحت رسالة الدكتوراه في أقل من ثلاث دقائق شرحاً وافياً غير مخل، استمتعت بالإنصات إليه. وحصدت جائزة قيمتها 3500 جنيه إسترليني.
وإذا كانت خطبة الوداع المهمة لم تستغرق مني عندما قرأتها جهرياً، بسرعات مختلفة، سوى 5 إلى 7 دقائق، فلماذا لا نحذو حذو المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسلافنا العرب في بلاغة الإيجاز. فأَوْجَزُ الكلام أبلغه.