حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

بين «انتفاضة الاستقلال» وثورة «17 تشرين»!

كثر الذين أجروا هذه الأيام المقارنات بين «انتفاضة الاستقلال» عام 2005، وثورة «17 تشرين» عام 2019. لجهة الظروف والمحفزات والمنطلقات والأهداف، وصولاً إلى النتائج. امتدت المقارنات إلى ما آلت إليه الأولى من أحوال البلد وواقعه، وما تطورت إليه الثانية التي أنتجت وعياً مجتمعياً مختلفاً، ليتبلور معها أن مصلحة اللبنانيين تكمن في إنجاز تغيير سياسي. وهنا نفتح مزدوجين كي نشير إلى أن ساحات الثورة رأت من الأشهر الأولى أن الأهم يكمن في استعادة الدولة المخطوفة، والممر الإجباري يتطلب حكومة مستقلة عن أحزاب منظومة الحكم ترعى فترة انتقالية لزوم إعادة تكوين السلطة.
يسجل لـ«انتفاضة الاستقلال» أنها نجحت في هزِّ نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، وأنه لولا اليوم المليوني الاستثنائي في 14 مارس (آذار) 2005 لما أمكن، رغم الضغوط والقرار 1559 إخراج جيش احتلال النظام السوري من لبنان، واستعادة الاستقلال! بعد ذلك بدت القيادة الطائفية للانتفاضة في موقع الخائف من شعبها، ولم تتورع عن ارتكاب الخيانة عندما أدارت الظهر لأحلام كل من جاهر بطلب العدالة والشفافية والديمقراطية والمساواة. ذهبت باكراً إلى «التحالف الرباعي» في الانتخابات، ولم تحترم مرتين نتائج الاقتراع التي منحتها الأكثرية، فكررت استنساخ حكومات «الوحدة الوطنية»، ما عمّق «نظام المحاصصة الطائفي»، وحُكم البلد بالفتاوى. وسقطت في التعامي عن حلول «حزب الله» في الموقع الذي كان للنظام السوري، وإن لم ينجح كلياً في إدارة البلد، على غرار ما كان يفعل «المندوب السامي» المقيم في عنجر!
كل محاولات تغيير المسار، كشعار المزاوجة بين تحرير الأرض عام 2000 من الاحتلال الإسرائيلي، مع التحرير في العام 2005 بإخراج جيش النظام السوري، لم تكن أكثر من «رش سكر على الموت». لقد تمّ تغييب الأساس، وهو انتقال البلد من سيطرة خارجية إلى أخرى، وخطورة السيطرة الإيرانية أنها تمت عبر جهة داخلية كانت تجاهر على الدوام بارتباطها بدولة الولي الفقيه. هنا مفيد أن نعيد إلى الأذهان أن القوى الطائفية التي خطفت «انتفاضة الاستقلال»، كانت بأكثريتها تسلطت مستندة إلى المحتل السوري وقانون العفو عن جرائم الحرب، وجُلّ ما ابتغته تعديل في ميزان القوى داخل التركيبة، ولم يكن هدفها العودة إلى الدستور والمؤسسات والشفافية وحكم القضاء المستقل، ما أوقعها في «جبِّ» الآخرين، ليقضم «حزب الله» السلطة، وصولاً إلى الاستسلام الكامل له في التسوية الرئاسية المشينة!
البقية معروفة، فمن نتائج الانقلاب على أحلامٍ عُلِّقت على «انتفاضة الاستقلال» بات لبنان بلداً بلا سيادة، ومنظومة فاسدة متجبرة تستند في غيِّها إلى بندقية غير شرعية، وجدت مصالحها المباشرة مع المسار الذي أوصل إلى الاتفاق النووي في العام 2015 وكرّس سلطة نظام الولي الفقيه، فانسجمت! كانت الشريكة في النهج الذي عزل البلد وأضعفه، بعد نهبها مقدراته وإفقار أهله، كما تحويله إلى منصة صواريخ! وهكذا فإن الانهيار المتدحرج بحيث لا سقف لتحليق سعر صرف الدولار، ولا قعر لتراجع قيمة الليرة، هو من النتائج البعيدة للانقلاب على «انتفاضة الاستقلال» وحلم الدولة الطبيعية، بدأ يتمظهر منذ سنوات، واستنكفت السلطة عن أي إجراء كان يمكن أن يحدَّ من المعاناة، بل شكلت السلطات من رئاسة جمهورية وحكومات ومجلس نيابي المظلة لإحكام السيطرة الخارجية! لكن النتيجة الأبرز لمرحلة الانتفاضة، أنها كانت ولادة حالة وطنية لا طائفية، سيبرز أثرها كحالة شعبية لاحقاً في «17 تشرين» وستسهم في كسر القوقعة المناطقية والطائفية.
مؤخراً، كشف الوزير السابق عادل أفيوني أن الإفلاس كان واقعاً في العام 2017، لكن السلطة السياسية والمالية خدعت المواطنين بالزعم أن «الليرة بخير»، وأغرت كثيرين بالفوائد المرتفعة، فيما كان كارتل سياسي مصرفي ناهب يهرب الرساميل، وطال التهريب السطو على الودائع. هذا الكارتل بالذات هو الذي حال بعد اندلاع الثورة، دون إصدار قانون «كابيتال كونترول»، فاستمر نهب المتبقي من الودائع بتهريبها!
الأسئلة تبدأ، ولا تنتهي، فأي بلد يمكنه أن يستمر بدون حكومة، خصوصاً بعد جريمة 4 أغسطس (آب)؟ ولمصلحة من حماية «تهريب» سلع مدعومة كالمحروقات والطحين؟ فيما السلع الغذائية الأخرى المدعومة انتشرت في الأسواق العالمية، من السويد وتركيا إلى الكويت وبلدان أفريقية، وما من متهم؟ ومن المسؤول عن التسبب في إقفال عشرات ألوف المؤسسات وارتفاع البطالة إلى ما يعادل 50 في المائة من اليد العاملة؟ ألا يوقظ الضمائر صراع الناس على حليب الأطفال والأرز والسكر والزيت، وهي سلع مدعومة، فيما يتكدس مئات في طوابير أمام المصارف لتسول الفتات من جنى أعمارهم، والعملة فقدت نحو 90 في المائة من قيمتها؟ لم يعد سراً أن «نيرونيّي» لبنان هم السوق السوداء للدولار، بعدما كانوا حماة الاقتصاد الموازي للدويلة، الذي نما على حساب جيوب المستهلكين، وهم من يضرم النار في الأمن الاجتماعي!
دخل لبنان مرحلة الاستعصاء، مع انتهاء مشروعية الطبقة السياسية، فما نجحت في إعادة إنتاج نظام المحاصصة، ولا في التوافق على حكومة، فكيف ستتوافق على الإصلاح؟ أولوياتهم تتراوح بين سعي القصر لتوريث الرئاسة، والبلد مهدد بالزوال، وأولوية «حزب الله» التوظيف في خدمة أجندة طهران ومشروعها التفاوض مع واشنطن، فيما الآخرون يبحثون عن حيثية ما، لأن الخارج من السلطة يدخل في النسيان! لا هم لأي جهة بمعاناة الداخل، ولا بتوبيخ الخارج، الذي لم يأتمنهم على «إعاشة»! قال فيهم الرئيس ماكرون: «أخجل مما تقوم به هذه الطبقة السياسية»، التي وصفتها «الفايننشال تايمز» بكواسر «تنهش جثة» الوطن.
بالتوازي، أسقطت «17 تشرين» كل مشروعيتهم، لكنها لم تتمكن من فرض البديل السياسي. صحيح أن الثورة رسخت وعياً عميقاً وإدراكاً أن شعار الحكومة المستقلة بات مطلب الأكثرية الساحقة، لكن دونه بلورة ميزان القوى، والناس تعي أن أي حكومة شراكة مع «حزب الله» هي استمرار اختطاف الدولة. لذلك، منذ جريمة تفجير المرفأ تقدمت المطالبة برحيل رأس الهرم، بعدما باتت الرئاسة غطاء لسياسات الممانعة الخطرة، ولا يمكن التغيير طالما بقي تسلط الدويلة!
انتقد كثيرون، بعضهم من موقع الحرص، تمسك «التشرينيين» بشعار «كلن يعني كلن»، الذي لازم الثورة، وتكررت المطالبة بـ«الواقعية» وتمييز «الأصدقاء من الأعداء»، في وقت بدأت تتبلور فيه الدعوة إلى معركة حجْر شعبي على كل من شارك في السلطة خلال العقود الأخيرة برفض تسلمه أي موقع! ببساطة، حتى في معركة بحجم رابطة أساتذة الجامعة اللبنانية، ولمنع فتح ملفاتها الموبوءة التقوا جميعاً، كل تحالف التسوية الرئاسية لكسر المستقلين! فمن هي يا ترى الجهة التي ستنخرط مع قوى الثورة لخلق قوة شعبية مدنية سلمية تواجه قيادة «حزب الله» ومشروع تسلطها وارتباطاتها؟ ومن دون هذه القوة، من العبث الحديث عن الحياد، ومن العبث الرهان على عودة لبنان ومصالحه على رادار العالم. لو وجد الطرف لتم تعديل الشعار!