جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: شائعات تُعسّر الولادة

الليبيون وحُسن الحظ -على ما يبدو- ليسوا على وفاق منذ نجاح ثورتهم عام 2011، إذ كلما لاح من بعيد في الأفق قبسٌ نحيلٌ من أمل بقرب انجلاء الغُمّة التي جثمت على قلوبهم طيلة سنوات، تنقلب الأمور فجأة بفعل فاعلين من الداخل والخارج، وتتلاشى الفرصة تاركة وراءها حسرات تتراكم.
الذين منّا على معرفة بالأوضاع في ليبيا ربما أتيحت لهم -مؤخراً- فرصة متابعة أخبار جلسات الحوار السياسي الليبي في مدينتي تونس أولاً ثم جنيف، بمبادرة من نائبة رئيس بعثة الدعم الأممية في ليبيا السيدة ستيفاني ويليامز، وما أسفرت عنه تلك الجلسات من نتائج تعدّ إيجابية، أهمها اختيار مجلس رئاسي جديد من ثلاثة أعضاء -رئيس ونائبان- ورئيس حكومة. المبادرة صُممت لحلحة أزمة خانقة في واقع سياسي متأزم أضحى خانقاً مأساوياً، على أمل وضع الحصان أمام العربة، وبهدف الوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية عام 2021. المبادرة -حقاً- أحيت في النفوس الآمال، ومخرجات الحوار جعلت من الممكن -واقعياً- الخروج من عتم النفق الذي دخلته عنوة البلاد، وأرهق ظلامه العباد. وبدا للجميع أن طالع سوء الحظ الذي لازم الليبيين لسنوات قد أتاح فرصة لطالع حسن الحظ -هذه المرّة- ليحلّ محله.
خلال الأيام القليلة الماضية، تسربت تقارير إعلامية مثيرة للقلق، بل محزنة، تتحدث عن قيام أشخاص يمثلون السيد عبد الحميد دبيّبة، المرشح لتولي رئاسة الحكومة، بدفع مبالغ مالية على شكل رشى إلى بعض أعضاء لجنة الحوار. وأصدر السيد دبيّبة -عبر مكتبه- بياناً بالنفي، مؤكداً أن الخبر قُصد به تعطيل العملية السياسية وتحريفها عن مسارها.
هناك من يريد وضع عصي في دواليب عجلات العربة التي تحركت أخيراً نحو مسار مخالف. وبالتالي، من الأفضل إيقافها عن مواصلة السير كلية.
لجنة الخبراء الأممية قالت إن تقريرها سيصدر يوم 15 مارس (آذار) الحالي، ويقدم إلى مجلس الأمن الدولي. ومن جانبها، أكدت البعثة الأممية في ليبيا، في بيان أصدرته مؤخراً تعقيباً على الخبر، أن العملية السياسية مستمرة بمخرجاتها، وأن البرلمان الليبي سوف يعقد جلسته المأمولة في موعدها يوم 8 مارس (آذار) بمدينة سرت لمنح الحكومة الثقة، وطالبت السيد دبيّبة بالإسراع في تشكيل الوزارة وتقديمها إلى البرلمان. وأكدت البعثة أنه لا علاقة لها البته بتقرير لجنة الخبراء بشأن مزاعم الرشى لأنها لجنة مستقلة تتبع لجنة العقوبات، التابعة بدورها لمجلس الأمن الدولي، ولها آلياتها الخاصة.
المشكلة في الأخبار غير السارة أنها تنتقل بلا أقدام بسرعة عجيبة، وتجد لها آذاناً منتظرة في كل حنيّة، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي. الخبر المسرب عن الرشى سرعان ما بدأت تتناقله مختلف المواقع والقنوات الليبية والأجنبية، بل إن بعض المعلقين الذين يظهرون في قنوات تلفزية ليبية لا تخفي عداءها للثورة الليبية نشروا على صفحاتهم في «فيسبوك» قائمة بمن تلقوا رشى، تشمل أسماء سيدات ليبيات معروفات بنزاهتهن من المشاركات في لجنة الحوار. وفي يوم السبت الماضي، أصدرت ست سيدات منهن بياناً يدين بشدة ما يدور من إشاعات تتعلق بقبولهن تسلم مبالغ مالية على شكل رشى، وطالبن الأمم المتحدة بنشر التقرير لوضع نهاية لما يُنشر حولهن من أكاذيب على صفحات الإنترنت. وفي اليوم الذي يليه، بعث منتدي المرأة الليبية للسلام برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش، تعبر عن دهشة أعضائه من الأخبار المتداولة عن الرشى، وحذرنه فيها من أن عدم نشر تقرير لجنة الخبراء أو التهاون في عزل المتورطين من مناصبهم سوف يؤدي إلى تقويض كامل عملية الحوار، وستكون له نتائج سلبية مستقبلاً.
ورغماً عن ذلك، فإن الطريق أمام نواب البرلمان إلى مدينة سرت، وفقاً لبيان أصدرته لجنة (5+5) العسكرية، سيكون خالياً من الحواجز والبوابات المسلحة. وأصدر المجلس البلدي لمدينة سرت بيان ترحيب بانعقاد البرلمان في إحدى القاعات بالمدينة، وتعهد بتقديم وتوفير سبل الراحة والأمن للجميع. وتبقى مسألة تمكن السيد دبيّبة من اختيار وزراء يتميزون بالكفاءة غير مثيرين للخلاف في أقرب وقت ممكن، لقطع الطريق على دناصير متخندقة في مناصب، ومن يدور في دوائرهم من أنصار سدنة الإبقاء على الوضع القائم، رفضاً لتغيير سوف يؤدي إلى حرمانهم من أضواء ونفوذ وأموال استحلوها ولا يستحقونها.
ليس مهماً أن تكون الولادة عسيرة لأن ذلك من طبيعة الحياة، لكن المهم نجاحها، لأن الفشل يعني تواصل مسلسل الفوضى والسلب والنهب، وغياب الأمن والأمان لبلد وشعب في أمسّ الحاجة للاستقرار واستعادة السلام.
السؤال الذي لا مفرّ من مواجهته: ماذا لو أثبت بالأدلة تقرير لجنة الخبراء إلى مجلس الأمن الدولي واقعة تقديم رشى لبعض أعضاء لجنة الحوار السياسي؟