مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

استيعاب إدارة بايدن

كلمة «استيعاب» في عنوان المقال قصدت بها معنيين اثنين: الأول بمعنى الفهم، والآخر بمعنى الاحتواء وتحمُّل الصدمات. في الكتابات العربية عن السياسة الأميركية قليل مما يثير الاهتمام نتيجة لعدم الاستيعاب والفهم لطبيعة النظام الأميركي مجملاً ولطبيعة تفاعلات الأطراف في واشنطن، أو حتى طبيعة اللغة التي تكتب بها واشنطن أو تتحدثها. ولنبدأ بمثال يوضح ما قلته للتوّ، فمثلاً في حديث وزير الخارجية الأميركي مع نظرائه في العالم، من بريطانيا إلى فرنسا إلى إسرائيل أو مصر، نجد عبارة «حليف استراتيجي» (strategic ally) عندما يتحدث عن بريطانيا، ونجد أيضاً تعبير «شريك استراتيجي» (strategic partner) عندما يتحدث عن مصر. وفي الترجمات العربية نتحدث كأن المصطلحين لهما المعنى ذاته، ولكنّ الحقيقة أنهما مختلفان تماماً، فالحليف هو مصطلح قانوني في المقام الأول مبنيّ على اتفاقيات ومعاهدات دولية ذات صبغة قانونية، أما الشريك فهو مجرد تعاون بحكم المصالح ومن دون أي التزام قانوني. فكل كلمة تصدر عن واشنطن محسوبة بدقة. المثال الآخر والأساسي هو مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان. يخطئ مَن يظن في منطقتنا أننا نحن المقصودون بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فهناك جائزة أكبر منّا وأهم بالنسبة إلى الإدارة الأميركية وهي الصين ومعها روسيا بالتبعية، فلهزيمة النموذج الصيني ليس لدى إدارة بايدن مفهوم استراتيجي آخر غير الديمقراطية وحقوق الإنسان، آيديولوجيا جديدة أقرب إلى تلك التي أدت إلى هزيمة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. نحن لسنا مقصودين، ولكنْ أمامنا اختيار: فهل نحن مع تحالف الديمقراطيات الجديد أم سننحاز إلى الكتلة الديكتاتورية كما انحاز عبد الناصر من قبل؟ هذان مجرد مثالين على أننا نخطئ أحياناً في فهم لغة واشنطن، ويجب علينا تعلمها وتعلّم سبل تأويلها كي لا نتوه في مواقفنا وأفعالنا مع الإدارات الأميركية.
ثانياً، يمكن القول إن أي إدارة أميركية هي عبارة عن ثلاث مجموعات أساسية: البيت الأبيض وما يصدر عنه، والكونغرس وما يُشرع فيه، وجماعات المجتمع السياسي المختلفة من وسائل إعلام متنفذة ومراكز أبحاث ذات سطوه علمية ونشطاء سياسيين وجماعات ضغط مؤثرة (lobbies). تفاعُل كل هذه الأطراف هو الذي يرسم ملامح أي قضية ستُطرح على الطاولة المركزية للنقاش في الولايات المتحدة الذي يسبق اتخاذ أي قرار بشأن دولة ما في العالم أو في ملف ما، سواء أكان الملف النووي الإيراني أو ملف تغير المناخ.
في هذا المقال سأحاول أن أقدم قراءة لإدارة بايدن من ذلك الطرف الأخير من قطعة القماش التي تبدو كأنها خيوط على الهامش، وسأحاول توضيح أهمية هؤلاء اللاعبين ودورهم الذي ما يلبث في لحظة أن يشكّل مركزية القرار وجوهر القصة.
اللاعبون الأساسيون في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن معروفون للجميع تقريباً، سواء أكان وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أو وزير الدفاع لويد أوستن، أو رئيس المخابرات المركزية ويليام بيرنز، مع أن استيعابنا لقدرات بيرنز ما زال ناقصاً باستثناء مَن عملوا معه بشكل مباشر عندما كان سفيراً لأميركا لدى الأردن، أو عندما كان نائباً لوزير الخارجية في عهد أوباما، وبيرنز يتحدث ويقرأ ثلاث لغات بطلاقة إحداها العربية. ومن الصعب جداً تضليله، فهو يعرف المنطقة مثلما يعرف كفّ يده.
قراءة إدارة بايدن من أطرافها تكشف لنا الكثير عن عملية نسج القصة الأميركية عن الشرق الأوسط. وأبدأ بشخصية تبدو هامشية وهي سمانثا بور، المسؤولة عن المعونة الأميركية... سمانثا بور ليست ككل من سبقها في إدارة المعونة الأميركية التي كانت مجرد إدارة تابعة للخارجية الأميركية؛ إذ تم في عهد بايدن رفع مستوى هذه الإدارة إلى وزارة، وتجلس سمانثا بور على طاولة الحوار السياسي برتبة وزير وناشطة حقوق الإنسان، وسفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة في إدارة باراك أوباما. وبهذا يصبح ربط بايدن المعونة الأميركية بحقوق الإنسان وقوة المجتمع المدني والديمقراطية، أمراً لا يقبل الجدل أو المماطلة أو التنصل، فهو جزء أصيل من أعمدة خيمة بايدن السياسية.
أما الشخص الثاني الذي يبدو كأنَّه مسؤول هامشي في السياق الوزاري أو سياق صناعة القرارات فهو روبرت مالي، مسؤول الملف الإيراني ورئيس مجموعة الأزمات السابق. قراءة من الهامش قد تكشف لنا الكثير عن طبيعة ومادة نسيج القصة الشرق أوسطية في إدارة بايدن.
من نافلة القول إنَّ القراءة السياسية لأي مشهد تكون ناقصة إذا ما انصبَّ التركيز كله على اللاعبين، فهناك مؤسسات النظام وكذلك السياق المحيط. وكما أسلفت، ففي واشنطن ثلاث مجموعات تشكّل القصة الأساسية: الإدارة، والكونغرس، ومجتمع مراكز الأبحاث المختلفة، ومع ذلك يبقى التفسير السياسي ناقصاً، إذا لم تكن لدينا قراءة كافية للاعبين المحرّكين للأحداث أو مَن لديهم القدرة على فرض سرديات قصة جديدة.
سمانثا بور وروبرت مالي قادمان من الفئة الثالثة، وهو مجتمع الأبحاث والصحافة، وكلاهما له توجه آيديولوجي تجاه قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي أصبحت ركيزة أساسية في السياسة الخارجية لإدارة بايدن. وفي حالة سمانثا بور يتَّضح اهتمام المرأة بقضايا حقوق الإنسان من قضايا الإبادة الجماعية من البلقان إلى أفريقيا، ويتَّضح من كتابها الأخير عن «تعليم الإنسان المثالي» وتجربتها الشخصية كمهاجرة آيرلندية يتضح نهج المثالية في العلاقات الدولية كنقيض للمدرسة الواقعية.
الجزئية الخاصة بأصولها الآيرلندية مهمة لتقاطعها مع خلفية الرئيس جو بايدن نفسه الذي يعتز أيضاً بأصوله الآيرلندية والكاثوليكية. ومن هنا يكون لصوت سمانثا بور صدى مسموع في أذن الرئيس.
روبرت مالي اليهودي من أصول مصرية له حساسية خاصة تجاه حقوق الأقليات والديمقراطية في الشرق الأوسط، تفرضها عليه تجربة والده الذي كان مراسلاً لجريدة «الجمهورية» المصرية في نيويورك حتى نُزعت عنه الجنسية المصرية، رغم أنه كان يسارياً مسانداً لقضايا العالم الثالث خصوصاً حملة عبد الناصر ضد الاستعمار في أفريقيا.
تعرفت على روبرت في واشنطن عندما كان يعمل في مجموعة الأزمات الدولية، ورغم أنه على المستوى الشخصي لم يَرُق لي، فإن هذا لم يمنعني من تقدير ذكائه وقدراته كباحث جاد ودبلوماسي متميز صُنع في جامعات مرموقة، «أكسفورد» كانت إحداها. روبرت جزء من مجتمع أوسع يهتم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مجتمع كان له دور في وصول بايدن إلى البيت الأبيض. ومن هنا سيكون لصوته تأثير مهم في نسج قصة الإدارة الجديدة وآيديولوجية علاقاتها الدولية.
شخصيتان من هامش الإدارة ستشكّلان الحكاية التي تحتلّ منتصف الطاولة في الفترة القادمة من إدارة الرئيس جو بايدن فيما يخص الشرق الأوسط.
رؤية كل من سمانثا بور، وروبرت مالي ستنعكس على قرارات بايدن فيما يخص الشرق الأوسط جملةً، ما قد يقلّص الدعم الأميركي للمنطقة على المستويات العسكرية والاقتصادية وربطها بمجال الحريات وحقوق الإنسان. استجابة دول المنطقة أو استيعابها بالمعنى الثاني (أي استيعاب الصدمات) قد تكون سبباً أكبر إما في توسيع الفجوة وإما في رأب الصدع.
معظم دول الشرق الأوسط منذ ستينات القرن الماضي تتنازعها رؤيتان؛ واحدة تقول إنَّ أميركا غير مهمة ونحن أدرى بشؤوننا، والأخرى ترى أنَّ الانحناء للعاصفة أمر عملي. وفي معظم الأحيان تتسيد الرؤية غير العقلانية ورؤية المواجهة والعنتريات، وللأسف تكون النتائج كارثية كما رأينا في هزيمة 1967.
بايدن سيحكم من الهامش نتيجة تحكم الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي في مقدرات الحزب (جمهور السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز)، وفيما يخص الشرق الأوسط يكون التركيز على الشخصيات الهامشية في الإدارة، مثل بور ومالي، ضرورة لأي محاولة لكسب المعركة الأولى مع الإدارة الجديدة.