مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

خبراء السياسة الخارجية

الكتابة عن السياسة الخارجية، والحديث التلفزيوني عن الخارج يتزايد بشكل ملحوظ باللغة العربية خلال السنوات الأخيرة، وهذا أمر لافت بالنسبة إليَّ وأظنه لافتاً أيضاً لآخرين مثلي، خصوصاً أن مستوى الكتابة أو الحديث عن الخارج متدنٍّ إلى مستوى لا يتواكب مع تأثير الخارج في أوضاعنا الداخلية، ولديَّ هنا بعض الأسئلة الأولية التي تبحث عن إجابة، وأولها: لماذا نكتب عن الخارج الذي لا نعرفه ونترك الحديث عن الداخل الذي نعرفه ونعيشه؟ والإجابة الأولى التي قد يتبرع بها البعض هي أن الحديث عن الداخل ضارٌّ بالصحة نتيجة حالة الانسداد التي يعاني منها بعض مجتمعاتنا، والمتحدث هنا يقصد انسداداً في المسارات السياسية. الحقيقة هي أنَّ في هذا النوع من الإجابات محاولة لإعفاء الذات عن التفكير بعمق في أحوالنا ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لا أظن مثلاً أن الأنظمة السياسية عندنا مثلاً لديها محظورات خطيرة إذا ما كتب أحدنا عن حالة التعليم في بلداننا. فلماذا لا نقدّم تقييماً نقدياً للتعليم في بلداننا، والتعليم هو عمود الخيمة في أي عمران بشري؟ فلماذا لا يترك خبراء السياسة الخارجية عندنا ما لا يعرفونه ويكتبون عما يعرفون أو يعايشون؟ لماذا الإصرار على الخوض في غمار ما نجهل؟ زيادة خبراء السياسة الخارجية ممن لم يتدربوا ولم يدرسوا أو لم يعايشوا المجتمعات الخارجية التي يتصدون للكتابة عنها يخلق حالة من التلوث في الفضاء السياسي والاجتماعي، تجعلنا نفقد القدرة على الفرز وتسمّم ماء البئر الذي نشرب منه جميعاً.
عندما جاءت حكومة حسن الترابي إلى السودان قالت إن السودان سيكون دولة الخلافة، ويومها قال أستاذنا الطيب صالح، رحمه الله، عندما دعوناه لمحاضرة في واشنطن: «إن لدولة الخلافة علامات ومؤشرات وقواعد (rules and regulations) مثل أن يكون في البلد الذي سيدّعي أنه مركز الخلافة، موقع ديني مرموق من خلال وجود المقدسات به، أو جود قبور للصحابة أو أي علامة تدل على ذلك»، وأكمل الطيب صالح: «بعدها نشرت جريدة سودانية تابعة للترابي أن السودانيين قد اكتشفوا قبر صحابي شمال الخرطوم»... قال ذلك رحمه الله وهو يضحك بسخرية من أحوال السودان أيامها.
هذه القواعد (rules and regulations) يجب أن تطبَّق بصرامة على من يتصدون للكتابة عن السياسة الخارجية، فيجب أن تسأل الصحف والتلفزيونيات عن مؤهلات من يكتبون ويتحدثون في الموضوع. إذ لا بد أن يكون هناك حد أدنى من المؤهلات. مثلاً إن كان أكاديمياً أن يكون قد درس العلاقات الدولية في مكان معروف وله كتب وأبحاث منشورة، وإذا كان دبلوماسياً مثلاً أن يكون قد عمل لعدة سنوات في الدولة الخارجية محل النقاش، أو كانت وظيفته في وزارة الخارجية معنية بالملف الذي يتحدث عنه، أما إن كان المعلق صحافياً فعلى الأقل يكون قد عمل مراسلاً في واشنطن أو نيويورك مثلاً لسنوات إذا كانت أميركا هي جوهر الحديث. تسمح صحيفة «نيويورك تايمز» مثلاً لأحد كتابها بالتعليق على الشرق الأوسط، لأنه قضى شبابه مراسلاً في المنطقة ولم يكتب عموده عن السياسة الخارجية إلا بعد أن شاب شعر رأسه في منطقتنا. إذن للمسألة أصول وقواعد يجب اتّباعها في انتقاء مَن يكتبون ويتحدثون عن السياسة الخارجية. معظم صحفنا وتلفزيوناتنا لا تلتزم بهذه القواعد، خصوصاً في الحديث عن الغرب أو عن روسيا والصين أو حتى بلدان قريبة مثل إيران وتركيا التي تشغل بالنا الآن.
حالة التلوث الفكري التي تسيطر على حوارنا العام عن الخارج لها تأثير شديد في ضرره على صناعة القرار في مجتمعاتنا، فلو أن دول منطقتنا تأخذ بما يُكتب في الإعلام من معلومات وتحليلات لما يحدث في عاصمة مهمة كواشنطن مثلاً، وأتمنى أنها لا تأخذ به، فنحن بصدد كارثة.
هذا يأخذني إلى نقطة أخرى جوهرية وهي: هل زيادة تافه القول في العلاقات الخارجية وتسيّده للمشهد دليل فقر وشحٍّ في الإنتاج الفكري الجاد؟ وهل مجتمع العلاقات الخارجية في منطقتنا (foreign policy community) بهذا الفقر الشديد فيما يخص قدرته على إنتاج مادة يستفيد منها صانع القرار؟ ربع قرن من الزمان وأنا أحاول متابعة مجتمع العلاقات الخارجية في العالم العربي أو حوارات وسرديات من يهتمون بالسياسة الخارجية، ورغم وجود ما يقرب من مائتي معهد متخصص في الدراسات الاستراتيجية، فإن بروز سردية عربية أو محلية في دراسات السياسة الخارجية تكاد تكون نادرة. أعتقد أننا الآن أمام فرصة لحديث جاد عن مجتمع العلاقات الخارجية في منطقتنا العربية. ولتحفيز الحوار حول هذا الموضوع أبدأ بادّعاءين فيما يخص مجتمع العلاقات الدولية في العالم العربي: الادعاء الأول هو إذا كان هذا المجتمع موجوداً فهو متناثر كحبات مسبحة تفرقت لا رابط بين أجندة أبحاثها ولا موضوعاتها، أما الادعاء الثاني فإن مستوى المخرجات والحديث عن نتائج الأبحاث لا يختلف كثيراً عمّا تلوكه الصحافة المرئية لمجرد ملء الهواء، واستبدال وجوه بوجوه وألقاب بألقاب لا تدري عنها المذيعة أو المذيع أو حتى القناة.
فهل العالم العربي يحتاج إلى مجتمع للعلاقات الخارجية، لمجرد فهم إدارة جو بايدن مثلاً، أم أننا سنستمر في تسيد أهل الكلام الفارغ للمشهد لنردّ عليهم ونحاججهم بنفس المستوى المتدني لنسقط معهم في مستنقع الجهل، ونغتسل به ظناً منّا أنه يُذهب الدرن الذي ملأ أجسادنا السياسية العربية؟ على الصحف والتلفزيونات مسؤولية أخلاقية كي تقوم بدورها كحارس للبوابة، ذلك المفهوم الصحافي الأساسي في أي عمل يُنشر على عامة الناس، فترك البوابات مُشرَعة هكذا يجعل الفارق بين صحيفة مرموقة وموثوقة وبين صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، قليلاً جداً. فهل من وقفة مهنية مع الذات؟