زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

أميركا والمنظمات الدولية: عودة بعد انسحاب!

كان متوقعاً أن تكون الولايات المتحدة تحت المجهر في السنوات الأربع الماضية، وتتعرض لسهام النقد، وتكون محل مساءلة لانسحابها من عضوية منظمات ومؤسسات دولية ذات مرجعية أممية، لأسباب ليست جوهرية في تقدير المتابعين، بينما جاء تبرير الرئيس الأميركي السابق ترمب بأنها تمثل هدراً مالياً، وأن تلك المؤسسات عبء ولا تأثير لها، مما أعطى انطباعاً سيئاً إزاء تعاطي إدارته مع الملفات الدولية. ترمب كان يردد كثيراً أن «الولايات المتحدة مخدوعة من جانب المجتمع الدولي»، وما زالت عبارته تلقى رواجاً لدى الحزب الجمهوري.
الإدارة الأميركية السابقة طرحت شعار «أميركا أولاً» وبالتالي ألغت عضوية واشنطن في منظمات، وانسحبت من عدة اتفاقات دولية، كمعاهدة باريس للمناخ، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الأطلسي التي وقعتها 15 دولة، وكذلك الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، ومنظمة اليونيسكو، وتعطيل عمل منظمة التجارة العالمية، وكذلك الانسحاب من منظمة الصحة العالمية التي كانت واشنطن أكبر ممول لها، ناهيك عن تعاطيه المربك مع حلفائه في الاتحاد الأوروبي، وتعامله مع حلف «الناتو» الذي وصفه بأنه كيان انتهى.
ممارسات أقل ما يقال عنها إنها أصابت المجتمع الدولي آنذاك بالدهشة والاستغراب، ليس فقط بسبب الانسحاب وإنما أيضاً لم يعتد العالم أن يرى الرئيس الأميركي يتخذ مثل تلك القرارات غير المدروسة. قرارات أضرت بمصلحة البشرية عامة، وبالتالي أثارت تساؤلات حول الدور الأخلاقي والأدبي والإنساني للدول الكبرى، وما قد يتركه تخليها عن المسؤولية من آثار سلبية سياسياً وحقوقياً واجتماعياً؟
من حيث المبدأ، لكل دولة الحق إزاء أي قضية أن تتخذ القرار الذي يخدم مصالحها في المقام الأول، وهو من حقها السيادي الذي يكفله لها القانون الدولي. ولكن هل ينسحب هذا الحديث على كل الدول؟ هناك من يرى أن دولاً كالولايات المتحدة وروسيا تضطلعان بمسؤوليات وواجبات تقتضيها المكانة والثقل والقدرة، وبالتالي تُصنف كدول كبرى أو عظمى، ولذا مشروعية هذا الاستحقاق تجعل المجتمع الدولي يطالبهما بالقيام بأدوار مفصلية؛ لأنها تساهم في تعزيز الأمن والسلم والتنمية والرخاء لشعوب الأرض. هذا يعني تشكيل صياغة النظام العالمي الجديد بما يحقق طموح شعوب العالم، أو هكذا يفترض، كونهما ترتكزان على تاريخ ريادي وثقل عالمي.
السياسة الدولية تعرضت في العقد الماضي إلى حالة من التخبط السياسي، نتيجة غياب الرؤية العميقة لدى كل الفاعلين على المسرح الدولي، بدليل ما لمسناه في السياسات الدولية من نظرة ضيقة تجاه ملفات دولية وانحياز في ملفات أخرى.
المسألة لم تعد تقتصر على قواعد اللعبة الدولية التي لطالما تتغير، وبالتالي تعيد معها ترتيب الأوضاع الجيوسياسية، وإنما القضية أكبر من ذلك. الحقيقة أن العالم يمر بفترة مخاض وتشكل، ليس لاختلاف الأشخاص والقيادات فحسب، وإنما أيضاً لتغير مفاهيم وعقليات، ما يعني تعاظم دور الدول الكبرى في القيام بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، والمؤمل أن تستشعر هذه الدول دقة المرحلة والظرف والتحديات التي يمر بها العالم.
بعد اجتماع قمة العشرين برئاسة السعودية، كانت معظم الآراء للقادة تدور حول أهمية التعاون وضرورة المشاركة والتفاعل في المنظمات الدولية لحماية الكوكب، والتعاون ما بين الدول لمواجهة كل التحديات والأزمات. الرئيس جو بايدن أعلن أن أميركا ستعود إلى العالم، مؤكداً أنها لن تكون نسخة مكررة من مرحلة أوباما. الرئيس الجديد أرسل عدة رسائل ليطمئن شعبه والمجتمع الدولي، أهمها إصلاح علاقات بلاده مع العالم، وإلغاء قرارات للرئيس السابق التي أثرت في سمعة واشنطن ومكانتها، بدليل أنه وقَّع عقب حفل التنصيب 17 أمراً تنفيذياً، منها عودة بلاده لاتفاقية المناخ وعضوية منظمة الصحة العالمية.
بدأت تتضح تدريجياً معالم سياسة الإدارة الجديدة، فمستشار الأمن القومي سوليفان أكد أن إدارة بايدن ستعيد تواصلها مع المنظمات التي انسحبت منها أميركا، وأنها ستركز على إصلاحها؛ مشيراً إلى تعزيز الشراكات مع الحلفاء لمواجهة المشكلات القائمة، وكشف عن عقد قمة عالمية قريباً في واشنطن، فضلاً عن إعادة تقييم العلاقة مع الصين. كما أن وزير الخارجية المرشح أنتوني بلينكن أكد أن إدارة بايدن لن تسمح لإيران بالسلاح النووي، وأنها تعمل على اتفاق نووي أكثر تشدداً معها؛ مؤكداً مشاركة دول الخليج في أي مفاوضات نووية بشأن إيران.
العالم يدخل مرحلة جديدة مع إدارة أميركية جديدة، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالقادم من الأيام، والمهم أن تعود روح التعاون والاحترام بين الدول. وكان محقاً من يقول إن أميركا تعود للعالم، ولا يمكن لأحد أن يحل محلها في المكانة والتأثير؛ لكن أميركا العائدة هي تغيرت أيضاً عما كانت عليه قبل 4 سنوات، والعالم الذي تعود إليه تغير هو الآخر فلم يعد كما كان. ومع ذلك تقول ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، إن «الولايات المتحدة عادت، تعددية الأقطاب عادت، والدبلوماسية عادت». كلام جميل، ولكن علينا أن ننتظر ونرى!