محمود الورواري
إعلامي مصري
TT

النُّخب العربية في معادلة التجديد والإزاحة

بغضّ النظر عن التعريفات المتعددة للنخبة سواء كانت «الطليعة» في التراث الماركسي، أو المثقف العضوي عند أنطونيو غرامشي، أو الطبقة، أو الصفوة، كلها أسماء وتعريفات لمعنى واحد، هو تلك الأقلية التي لديها القدرة على التأثير بما تملكه من وعي وعلم وفهم ونفوذ.
وأياً كانت أنواع النُّخب وتصنيفاتها سواء كانت نخباً اقتصادية أو نخباً سياسية أو نخباً ثقافية، فهي تعكس الدور الذي تقوم به، حيث تشكّل الجسر الحقيقي بين الشعب وبين مَن بيده القرار. ولعل المدرَك الواضح عند عموم الشعب أن كلمة نخبة باتت كلمة سيئة السمعة لأنها باتت في منزلة الريبة والشك بعد أن زادت الفجوة بين المكون الشعبي بطبقاته المختلفة وبين تلك النُّخب، بعد أن أصبحت غير قادرة على ترجمة أوجاع الناس وهمومهم وغير قادرة على القيام بدور تربية الوعي، ولا حتى تربية الوجدان، وباتت موصومة بتهمة الفساد الكامل. وهناك الكثير من الكتابات التي تعلن موت النُّخب وفناءها. فالنُّخب حُشرت بين طاحونتين: طاحونة الشعوب التي رأتها فاسدة، وطاحونة الأنظمة التي رأتها في بعض الأحيان خائنة.
تلك أزمة حقيقية تعيشها النُّخب العربية، ولا أحد يملك الجرأة في الدفاع عنها في كل المجالات: السياسة والثقافة والاقتصاد وحتى الفن والإعلام.
كثير من الشعوب راحت تفتش بنفسها عن أصوات تعبّر عن همومها وتتحدث باسمها، وقبل كل شيء تثق بها. في ظل كل هذه الأزمة ارتفعت أصوات تطالب بتجديد النُّخب، وأصوات أخرى تسعى إلى تربية وتكوين نُخب جديدة وفعل سياسي يعمل في بعض الأحيان على إزاحة النُّخب القديمة ودفنها.
ولاحظنا مؤخراً في عدد من بلادنا العربية الدفع بأسماء جديدة في كل المجالات: سياسة، وإعلام، واقتصاد، وفن، وغيرها، حتى لو كان بعض هذا الدفع متأثراً ببعض شعارات الربيع العربي، مثل «تمكين الشباب» وغيره. كلُّ ذلك لا حرج ولا غبار عليه، لكن في كل المراحل السياسية السابقة كان ذلك يتم بآليات وبحرفية تجعل تلك العملية تخرج بفائدة. فالفرق كبير بين تجديد النُّخب، أي ضخ وجوه جديدة في ظل حضور الوجوه القديمة، وبين إزاحة النُّخب القديمة وموتها. وهذا ما نراه يحدث الآن.
هنا وجب التنويه إلى ثلاثة مسارات للتعامل من النُّخب:
1- مسار التكوين والتربية والتأسيس من الصفر. 2- مسار التجديد وضخ وجوه جديدة في حضور القديم. 3- الإزاحة أو دفن القديم والإتيان بجديد من خارج بيئة النُّخب القديمة.
التكوين من صفر لا يحدث إلا في لحظة تكوين وتأسيس دول وأمم، وهذا ينطبق على عهد محمد علي، حيث ينطبق هنا مصطلح تربية النُّخب من خلال إرسال البعثات التعليمية العلمية التي بدأت منذ 1813 بخطة دقيقة ذات تأثير بعيد.
بدأ بإرسال بعثة إلى إيطاليا لتعلم الفنون العسكرية وكانت واحداً وعشرين طالباً، ثم أخرى إلى فرنسا وإيطاليا عام 1826 أنتجت لنا رفاعة الطهطاوي مثلاً رائد النهضة والتنوير، ثم بعثة للصناعة، وأخرى في الطب، وأخرى في النجارة والتصنيع، واستمر الأمر لما بعد 1845.
بعدما يزيد على خمسين عاماً أصبح لدى مصر نخب فاعلة حقيقية ومؤثرة مثل الطهطاوي ومحمد عبده وعلي مبارك وكثير من الأسماء في كل المجالات هم الذين صنعوا مصر الحديثة.
وهذا حدث في مرحلة بناء دولة حديثة من الصفر، حيث لم تكن هناك دولة ولا هناك حداثة. لكن الآن لا يمكن أن يدّعي أحد أنه يمكن أن يزيح القديم مرة واحدة ويترك المجتمع بلا نخب حتى يعيد تربية نخب تلائم هواه من جديد، لأن المجتمعات كالقطار الذي صُمم كي لا يتوقف ولا يمكن لأحد إيقافه وإنزال جميع ركابه ثم شحنه بركاب جدد على مزاجه، لأن توقف المجتمعات يعني موتها.
من هنا يمكن القول إن المجتمعات العربية أمام استحالة تكرار مسار تربية نخب من الصفر، وأمام خطورة إزاحة نخب قديمة، وهنا نصبح أمام مسار واحد يلائم جريان المجتمعات، وهو التجديد في حضور القديم وليس دفن القديم والإتيان بجديد. فليس من المنطقي أن تقلب صفحة كاملة بكل وجوهها بين ليلة وضحاها وتعلن أنك قادر على خلق وجوه جديدة.
إن زمن ما بعد 2011 هو زمن يحتاج إلى تعامل حكيم مع ما سبق، وإن الإقصاء والإغواء أو الإزاحة ليس حلاً ناجعاً وملائماً ولا يمكن الفصل بين الأزمنة وإنما وجب الانتقال بين الأجيال، خصوصاً إذا كان الجيل الجديد لا يملك تلك الخبرات السابقة التي فرضتها حركة التاريخ والمتغيرات.
كل حقبة سياسية أوجدت نخبها بخيرها وشرها، وكل حقبة سياسية تتحمل جزءاً من فساد وإفساد هذه النُّخب، وفكرة التخلص من النُّخب القديمة لإفساح المجال أمام نُخب جديدة فكرة خاطئة، خصوصاً إذا كانت تربية الجديد ليس تكويناً علمياً حقيقياً بقدر ما هو مناكفة ومعاندة مع القديم.
المجتمع في احتياج شديد لإحداث تقارب حقيقي بين تلك النُّخب بعضها وبعض، فلا تتغول نخبة سياسية على أخرى ثقافية ولا تبتلع نخبة اقتصادية بقية النُّخب. كما نحتاج إلى إعادة الثقة بين الشعوب ونخبها، وهذا لن يتأتى إلا إذا أحست الشعوب بأن نخبها منحازة إليها ولا تتاجر بها.