رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

أميركا العميقة وأميركا ما بعد ترمب

على مدى عدة عقود، وعلى مرحلتين، انصرف كُتّاب المجلات السياسية والاستراتيجية في أوروبا والهند والشرق الأوسط إلى متابعة السياسات الخارجية الأميركية وتأثيراتها المدمِّرة على العالم، خلال العقدين الأخيرين من الحرب الباردة (1970 - 1990)، ثم خلال ما صار يُعرف بحقبة الهيمنة الأميركية (1990 - 2007) . نهض إلى تحليل المرحلة الأولى الشيوعيون الكلاسيكيون، واليساريون الجدد، واليساريون الجدد أكثر، لأنهم كانوا يتطلعون إلى عصر جديد وإصلاح للنظام الدولي فيما بعد الحلفين؛ حلف وارسو، وحلف الأطلسي. ثم في المرحلة الثانية، انصبّ الجهد، وهذه المرة من جانب الليبراليين، وبينهم أميركيون وغيرهم، على نقد استراتيجيات ووقائع الهيمنة الأميركية المناقضة لدعوى ودعوة النظام العالمي الجديد التي تحدث عنها الرئيس جورج بوش الأب عام 1990.
وخلال نحو الأربعين سنة في المرحلتين، ما التفت الاستراتيجيون الأميركيون الكبار في الأعمّ الأغلب إلا إلى أمرين أو ظاهرتين؛ الانتصار الأميركي الساحق في الحرب الباردة وعواقبه، باعتباره انتصاراً للحرية والديمقراطية في العالم. وعلى هذه الشاكلة، جاءت أطروحات فوكوياما وهنتنغتون وبنيامين باربر بشأن نهاية التاريخ وصدام الحضارات والعولمة والأصوليات. أما الظاهرة الأخرى فهي بروز نُخَب فكرية وسياسية أميركية، عُرف أعلامها بالمحافظين الجدد، يستسخفون النزعة الانعزالية الأميركية القديمة (التي ظلت تياراً في الحزبين الجمهوري والديمقراطي)، ويدعون إلى تدخلية أقوى في العالم لنشر مُثُل الحريات والديمقراطية بالقوة إذا اقتضى الأمر! ويتحمل هؤلاء جزءاً من المسؤولية عن حرب العراق.
لقد اعتبر كثيرون ظاهرة المحافظين الجدد ظاهرة عابرة، تكونت من مجموعة من البيروقراطيين المتمردين ذوي الأصول اليسارية، ومن هنا أتت راديكاليتهم. ولذلك تكسروا نتيجة الفشل بأفغانستان والعراق.
أناتول ليفن A. Lieven وهارتز Hartz ومايكل ساندل M. Sandel يُطْلعوننا مع آخرين في العقدين الأخيرين على الانقسام العميق داخل المجتمع الأميركي، الشديد التنوع بين شعبوية محلية قوية في الجنوب الأميركي، تقول بالتفرد والمدينة الإنجيلية على الجبل، والأخرى التي تعتنق الدين المدني العام أو الإمبراطوري، والتي سادت في الشمال الأميركي خلال الحرب الأهلية وما بعدها. وهناك فكرة سائدة، مؤداها أن السياسات الأميركية كلها محلية، وهمُّها مَنْ يسيطر بالداخل (ألكسيس دي توكفيل... الديمقراطية في أميركا... 1830). ومن لا يستطيع السيطرة في الانتخابات المتعددة الدرجات والجهات؛ فإنه ينكفئ قليلاً أو كثيراً، والانكفاء يولّد راديكاليات وشعبويات متصاعدة. وفي حين ما كاد الشماليون ينتصرون في الحرب الأهلية (وكلا الفريقين أبيض ومن الـWASP))؛ فإنه خلال 100 عام وأكثر صار الملوَّنون نصف الشعب الأميركي. وما تزال بيروقراطية المؤسسات الفيدرالية منحصرة في الحزبين؛ لكنّ ظاهرتي ريغان وترمب، يمكن أن تنتج حزباً أو أكثر خارج الجمهوريين، كما أن راديكاليات السود واللاتين، يمكن لها أيضاً أن تنتج أكثر من حزب خارج الديمقراطيين. وهكذا ينبغي أن ننظر إلى أوباما، باعتباره ظاهرة أيضاً، في حين ما ظهرت كاريزميات قيادية كبرى حتى الآن بين لاتينيّي الولايات المتحدة، الذين سيشكلون أكثرية في العقود المقبلة.
لماذا انفجرت الشعبوية الترمبية، «التي تجاوزت الجنوب الأميركي بالطبع» في عهد ترمب بالذات؟
لأن فئات كثيرة بيضاء متوسطة التعليم، وتعيش على حواشي المدن وفي الأرياف، شعرت بانحسار شديد لأدوارها في المجال العام، وفي فُرَص العمل، وفي التأثير على السياسات الداخلية في مسائل كثيرة. وفي الوقت نفسه، تصاعدت ضغوط الملوَّنين المتكاثرين من أجل الاستمتاع بالحقوق التي تتيحها لهم مواطنتهم. ولأنهم صاروا أفضل تنظيماً «وتعليماً»، فقد أوصلوا أوباما المتلائم كثيراً مع أدبيات ومؤسسات وإجماعات الدولة والدين المدني العام. لكن البيض المهمشين خافوا كثيراً من ظاهرة أوباما الأسود، ومع ذلك صاحب الشخصية المدنية والنخبوية الجذابة. ولذلك، يمكن القول إنهم تشاركوا هم «The Crowd» وترمب معاً في إنتاج الشخصية التي اعتقدوا أنها تمثّلهم. في كل فترة تظهر شخصية كاريزمية بيضاء نعرفها نحن في الخارج من خلال العداء للشيوعية أو للهجرة أو الانتصار لإسرائيل أو الكلام ضد الأوروبيين الكسالى المعتمدين على قوة الولايات المتحدة. ومن هؤلاء أمثال غولدووتر وجاكسون ومكارثي. إنما كل هؤلاء ينجحون أولاً في المحليات والولايات، ولا يتحدثون في الشؤون الكبرى إلا عند التفكير في الترشح للرئاسة. وحتى ريغان كان له دور في الشؤون المحلية. أما ترمب فليست له تجربة في الوظيفة العامة، لكنه اشتهر بـ«المرجلة» (كما يقال) على المؤسسات وعلى القوانين، باعتباره رجل أعمال كبيراً وناجحاً. وقد كان دائماً شديد الإقبال على الإعلام. ولم يعرفه البيض المهمَّشون بالقوة ضد ضوابط القوانين فقط؛ بل عرفوه باعتباره ثائراً على الحزبين، وعلى كل البيروقراطيين وكل النُخَب «المتفلسفة والمنافقة» كما قال مراراً. والواقع أن نُخَب الحزب الجمهوري قاومته، وإنما أرغم تلك النخب على ترشيحه جمهور الحزب المحافظ على وجه العموم. وهو عندما فاز بأكثرية ضئيلة صدّق ظنونهم، فتجاهل القوانين والأعراف، وراح يتصرف مثل «راعي البقر» جون واين وريغان الممثل، ليس مع الداخل فقط؛ بل مع زعماء العالم. استقوى بالدولة والمؤسسات لضرب المؤسسات مستخدماً هيبة الدولة والرئاسة. واستخدم في مئات الوظائف العالية والمتوسط أُناساً من أولئك الذين يحبهم أنصاره من العامة، وكثير منهم ليسوا من ذوي التجربة أو الكفاءة. والذي ثبت خلال 4 سنوات أن الرجل ليس «رجل دولة» كما ترى النخب الأميركية والأوروبية، بل هو رجل جمهور وعامة. ولا يخشى الاتهام بالعنصرية أو الفساد، ولا تُهمه كثيراً آيديولوجيا أو دوغما البراءة والزهد، وهي ليست من فضائل المدينة المتفردة على الجبل فقط؛ بل هي الفضيلة الرئيسية في الدين المدني الأميركي العام!
الطبقات الوسطى (بدون تحديد دقيق من الناحية الاقتصادية) هي التي صنعت المثال أو صورة أميركا عن نفسها. والأمر الآخر أنهم ربطوا تلك الصورة بأصل نشوء مجتمع المهاجرين هؤلاء، الديني والفكري. السود واللاتين أكدوا دائماً أنهم مؤمنون بهذه القيم، ويريدون المشاركة في «الحقوق» التي تقتضيها مدنية الحضارة المتفوقة. وعندما بدا أن أطروحات الحقوق تتقدم وتنتصر، واجههم نخبويّو المحافظين - كما يقول ساندل Sandel في «استبدادية الاستحقاق» - بضرورة التأهل لاستحقاق الحق. وما يزال النضال على أشدّه، فالقوانين منصفة بحدود معينة، وليس كذلك الممارسات في المؤسسات.
إن الشعبوية الجديدة البيضاء ترى أن البلاد الشاسعة لا تتسع لها وللآخرين المختلفين في الوقت نفسه، سواء تأهلوا أم لا.
الانضباط الطويل في الدولة الأميركية سيُرغم على هدوء مؤقت. لكن هواجس وهموم الفتنة بالصورة والواقع لن تختفي. المهم بالنسبة لنا وللعالم كله عدم الشماتة أو إساءة التقدير، فالأميركيون صنعوا نظام العيش في العالم، ومن ضمن ذلك قيمه، فإلى أين يتجه العالم؟ مع أميركا، وليس ما بعد أميركا.