الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

ظل ترمب يخيّم على رئاسة بايدن

في العادة، يذهب الرئيس الأميركي المنتهية ولايته إلى التاريخ. يتقاعد في مزرعته ويتسلى بكتابة مذكراته وباستعادة صور القادة الذين التقاهم والاتفاقات التي عقدها والقوانين التي وقعها، والعواصم التي زارها. يصبح خارج السياسة وخارج القرار. لا تحتمل أميركا رئيسين في وقت واحد. منتصف نهار 20 يناير (كانون الثاني) هو الحد الفاصل بين هذا وذاك.
منتصف نهار الأربعاء المقبل، سوف يكون الأمر مختلفاً. صحيح أن جو بايدن سوف يدخل البيت الأبيض، إلا إذا حصل ما هو أكثر من استثنائي وحال دون ذلك. ودونالد ترمب سوف يخرج. ولكن... هل سيخرج ترمب فعلاً؟ لن يعود الرئيس الخامس والأربعون ممسكاً بالمقود ولا بالزر النووي. لن يركب الطائرة الرئاسية ولا سيستخدم سيارة الليموزين المصفحة. لكن شبح إقامته في عاصمة القرار العالمي لن يغيب. في جعبته 74 مليوناً من أصوات الأميركيين، بزيادة 11 مليوناً عن أولئك الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض عام 2017. وهؤلاء الملايين لن يذهبوا إلى أي مكان. إنهم باقون في مدن أميركا وأريافها طوال السنوات الأربع المقبلة من ولاية بايدن. لا يعترفون بأي رئيس لهم إلا بدونالد ترمب.
ظِل ترمب سوف يكون حاضراً في واشنطن يوم الاحتفال بتنصيب خلفه. عدم مشاركته في الحفل كما جرت العادة في الولايات المتحدة، وانتشار أكثر من 20 ألفاً من عناصر القوات المسلحة لحماية العاصمة من خطر «غزوة» جديدة، يؤكدان أن الرئيس الغائب الذي غادر هو الذي يسيطر القلق منه ومن تأثير خطواته المقبلة على الإدارة الجديدة.
لن يكون سهلاً التخلص من إرث هذا الرجل ولا من ظله. هو الذي جاء من خارج المؤسسة ومن خارج الحزب. أصبحت رئاسته مختلفة وعلامة فارقة مثلما هي شخصيته. رجل لا يعترف بتقاليد ولا بمحرمات. دستوره خاص به وكذلك القوانين. على هذا الأساس بنى ترمب القاعدة الشعبية الواسعة التي شاهدنا نموذجاً منها في «غزوة الكابيتول» في 6 يناير. تحت شعار «كلكم خونة» رفع هؤلاء المحتجون على فوز بايدن المشانق والمقصلة، للتذكير بالثورة التي انتهت بقطع رأس لويس السادس عشر والمسكينة ماري أنطوانيت. حتى نائب الرئيس مايك بنس كان اسمه على المشنقة التي كانت منصوبة أمام مبنى الكونغرس وعليها أسماء «الخونة» الآخرين: نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب وعدد من حكام الولايات الديمقراطيين، وليز تشيني ابنة نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، أبرز عضو من الحزب الجمهوري ممن صوتوا ضد ترمب، الذي قال عنها: لا بد من تخليص العالم من أمثال هذه المرأة.
أراد المحتجون على «سرقة» الانتخابات وحرمان ترمب من الرئاسة أن تصل رسالتهم إلى من يريد أن يسمع. إنها ثورة على كل ما تمثله المؤسسات الأميركية: في مقر الحكم في البيت الأبيض، وفي مقر التشريع في الكونغرس بمجلسيه، وفي مقر القضاء في المحكمة العليا. كل هؤلاء متهمون بارتكاب عملية تزوير استثنائية لإبعاد دونالد ترمب عن حقه التاريخي في البقاء في البيت الأبيض: ترمب رئيسنا ولا نعترف برئيس سواه.
شعار الثورة على المؤسسات الأميركية الذي رفعه مؤيدو ترمب التقى مع شعارات تيارات متطرفة وفاشية تمثل اليمين الأميركي والمجموعات العنصرية المدافعة عن تفوق العرق الأبيض في المجتمع. تيارات لا نصيب لها أو حظ في صناديق الاقتراع، وجدت ضالتها في دعم رئيس ترى فيه صورتها الحقيقية، يسمح له خطابه غير التقليدي بالدفاع عنهم، حتى عندما يخططون للهجوم على المقرات الفيدرالية، كما ظهر من دعوته لهم إلى تنفيذ مسيرتهم نحو مبنى الكونغرس للضغط على أعضائه وعدم توثيق رئاسة بايدن.
ظِل ترمب لن يفارق واشنطن. سيكون صعباً تجاهله فيما يجري التصويت في الكونغرس للموافقة على من سيتولون الحقائب الحكومية الذين يبدأ معهم بايدن ممارسة حكمه. الاتهام الذي صوّت عليه مجلس النواب بإدانة ترمب بخرق الدستور والتحريض على الانقلاب على نتائج الانتخابات سيزيد الأمر صعوبة في وجه جو بايدن الذي كان يفترض أن تكون بداية ولايته بمثابة طي لصفحة السنوات الأربع الماضية وفتح صفحة جديدة تتيح إعادة توحيد أميركا، كما وعد. لكن هذه الولاية سوف تبدأ بمحاكمة ترمب في مجلس الشيوخ تمهيداً للتصويت على قرار يعتبره غير مؤهل لتولي الرئاسة، وبالتالي لعزله. وسوف يكون ذلك سابقة تاريخية، إذ إن ترمب سوف يكون مستجماً على شاطئ المحيط في منتجعه في فلوريدا، فيما يكون المشرّعون في الكونغرس منهمكين بتحديد صلاحيته للحكم.
كثيرون يفضلون لو كان ممكناً التخلص بسرعة من إرث ترمب ومن المواجهات التي رافقت ولايته. لو كان ممكناً قلب هذه الصفحة. خصومه في الحزب الديمقراطي يفضلون ذلك بالطبع، وكذلك الذين كانوا يصفقون له من أعضاء الحزب الجمهوري في المجلسين طوال السنوات الأربع الماضية، والذين كانوا يعرفون أن دعمه يكفل وصولهم إلى مقاعد التشريع التي يجلسون عليها. هؤلاء الأعضاء الجمهوريون يدركون أن ترمب سيبقى عقبة في وجه الطامحين منهم سواء للترشح للرئاسة سنة 2024 أو للحصول على أصوات الناخبين، في أي معركة تشريعية لعضوية الكونغرس.
لكن الوقائع لا توحي بأن أكثرية أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس مستعدون للتخلي عن دعم ترمب أو التراجع عن الدفاع عنه، حتى رغم الصعوبات أمام مستقبله السياسي، وخروجه من ولايته الرئاسية حاملاً عبء اتهامين من مجلس النواب بإساءة استخدام سلطاته، أنقذه الجمهوريون من الإدانة بالاتهام الأول، وربما كانوا على الطريق لإنقاذه من الاتهام الثاني.
الأرقام لا تكذب وتؤكد تردد الجمهوريين في التخلي عن ترمب. رغم «غزوة الكونغرس» في 6 يناير وتأكيد هزيمته من قبل مجالس الولايات وفي المحاكم، صوّت 147 عضواً في الكونغرس (139 من النواب و8 من الشيوخ) ضد تأكيد فوز بايدن. وفي جلسة مجلس النواب التي صوتت على قرار اتهام ترمب بتحريض مؤيديه على الهجوم على مبنى الكابيتول، لم يصوت سوى 10 من الجمهوريين (من بين 212) إلى جانب القرار.
نجاح جو بايدن في حياكة الثوب الأميركي الممزق سوف يتوقف على مدى استعداد قيادات الحزب الجمهوري لمرافقته في هذه العملية والتخلي عن إرث ترمب الذي كان عبئاً على صورة الحزب بقدر ما ساعده على كسب الأصوات. بكلام آخر على مدى استعداد الجمهوريين لاستعادة حزبهم من «الترمبيين»، الذين قال عنهم دونالد ترمب الابن في يوم «الغزوة» الشهيرة إنهم هم الجمهوريون الحقيقيون.