روبرت فورد
السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن
TT

قبول المسؤولية الأميركية والتعلم منها

عندما أصدر الرئيس دونالد ترمب أمراً بالعفو عن أربعة موظفين في شركة «بلاكووتر» الأمنية أطلقوا النار على وقتلوا 17 مدنياً عراقياً في ميدان النسور عام 2007، تذكرت وقائع اجتماع جرى مع أفراد عائلات هؤلاء الضحايا. وقتذاك كنت في الجزائر، لكنني مثلت السفارة الأميركية في بغداد عام 2009 عندما وجهنا الدعوة لبعض أقارب الضحايا من جديد للتعبير عن أسفنا وعرض تعويض مالي صغير غير ملائم على الإطلاق - فكيف يمكن للمال أن يعوضك عن مقتل ابنك أو أبيك أو شقيقك؟ مستحيل. ربما يكون هذا الاجتماع المهمة الأصعب على مدار مسيرتي في مجال العمل الدبلوماسي الممتدة لـ30 عاماً.
أبدى العراقيون الذين شاركوا في الاجتماع قدراً كبيراً من عزة النفس وتعاملوا معنا باحترام رغم ما اعتمل داخل نفوسهم من غضب. جدير بالذكر، أنه في عام 2009 كانت المحاكم الأميركية لا تزال تنظر في الجريمة، وبالتالي لم يكن باستطاعتي الاعتراف على نحو مباشر بجرم موظفي «بلاكووتر» الذين عملوا تبعاً لعقد كبير مع السفارة الأميركية. وزاد ذلك الموقف سوءاً وسخفاً لأننا جميعاً كنا نعرف من أطلق النار على المدنيين وتقديمنا المال كان إقراراً منا بمسؤوليتنا.
من وجهة النظر الأميركية، كان هناك تهديد أمني حقيقي، فقد تعرض دبلوماسيون ومسؤولو أمن أميركيون للقتل في العراق. وأتذكر أن واحداً من أفراد فريق العمل المعاون لي كان يتولى إدارة المكتب الأميركي الدبلوماسي في الموصل، اتصل بي عام 2005 ليخطرني بأن كميناً أسفر عن مقتل أحد أفراد الأمن الدبلوماسي التابعين لنا.
كما أن زوجتي التي كانت دبلوماسية أميركية هي الأخرى، كانت في قافلة تعرضت لكمين عام 2005، لكنها نجحت في النجاة من الحادث من دون أي إصابات. بجانب ذلك، تعرضت أنا شخصياً للاختطاف على يد أفراد من جماعة «منظمة بدر» في النجف في سبتمبر (أيلول) 2003، لكنني كنت أكثر حظاً من الكثير من العراقيين الآخرين وأُطلق سراحي بعد ثلاث ساعات.
على أي حال، لا يمكن لمثل هذه التهديدات إطلاقاً تبرير قتل مدنيين أبرياء.
وخلال فترتَي عملي الطويلتين في السفارة الأميركية ببغداد، أتذكر رؤية أفراد قواتنا الأمنية، العسكرية والمدنية، وهم يغلقون الطرق ويثيرون الذعر بين المدنيين بتصويب الأسلحة مباشرة إليهم. وداخل سياراتنا المصفحة عبر مواكبنا، كثيراً ما خالجني الاعتقاد بأنه من الأفضل للدبلوماسيين الأميركيين البقاء داخل سفارتنا الضخمة، بدلاً عن التوجه إلى الخارج والتسبب في هذا القدر الكبير من الارتباك. ولم نكسب أي أصدقاء عراقيين بهذا الأسلوب.
وحتى يومنا هذا، يصر «الحزب الجمهوري» على أنه لو كان أوباما قد أبقى على بعض القوات في العراق، ما كان تنظيم «داعش» ليمثل مشكلة كبيرة قط. في الواقع، هؤلاء الأميركيون لم يشاهدوا قط السلوك العدواني لأفراد الأمن الأميركيين، من عسكريين ومدنيين، في شوارع المدن العراقية الكبرى مثل بغداد. ولم يلتقوا قط عراقياً فقد أحد أفراد أسرته لأن أميركياً اقترف خطأً وأطلق النار من مسدسه وأسقط مدنياً قتيلاً.
عام 2009، عندما بدأت المفاوضات الأولى حول مستقبل القوات الأميركية بالعراق، أخبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الدبلوماسيين الأميركيين الذين يتفاوضون معه أنه لن يقبل أبداً بمنح حصانة للجنود الأميركيين في الشوارع العراقية. من جانبي، اختلفت مع المالكي في الكثير من الأمور، لكن في هذه النقطة تحديداً كنت متعاطفاً معه. وكان المالكي متفهماً لمشاعر الغضب والسخط المستعرة في نفوس غالبية أعضاء البرلمان العراقي، وأعتقد كذلك أنه كان واعياً لمشاعر غالبية العراقيين في المدن الكبرى مثل بغداد.
وفي وقت قريب، أجرت منظمات مثل «إير وورز» في بريطانيا و«منظمة العفو الدولية» وصحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقات عميقة حول العمليات العسكرية الأميركية في سوريا والعراق للكشف عن عدد المدنيين الذين قتلوا. وفي أبريل (نيسان) 2019، أصدرت «منظمة العفو الدولية» و«إير وورز» تقريراً خلص إلى أن 1600 مدني قتلوا بسبب الضربات الجوية والقصف المدفعي الأميركي غير الدقيق والذي ربما شكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي.
ونشرت «نيويورك تايمز» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 تحقيقاً مفصلاً خلص إلى أن واحدة من كل خمس ضربات جوية أميركية في الموصل خلال الحملة ضد تنظيم «داعش» أسقطت ضحايا مدنيين، ولم تعترف المؤسسة الأميركية قط بأعمال القتل تلك ولم تجر تحقيقاً بشأنها. وبإمكانك العثور على هذه التقارير على شبكة الإنترنت.
بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يبرر أفعال تنظيم «داعش»، لكن هذه المؤسسات تحث واشنطن على إجراء تحقيقات رسمية جديدة وشاملة حول تصرفات القوات المسلحة الأميركية.
من جهتها، تقول المؤسسة العسكرية الأميركية إنها تعتمد على الاستهداف الدقيق وتتجنب قتل مدنيين. وأعلم من جانبي أن بعض الضباط يحاولون التحلي بالحرص، لكن القصة برمتها تذكرني بأخطاء «بلاكووتر» في العراق منذ 13 عاماً ماضية.
جدير بالذكر، أن التحقيقات التي جرت بعد مذبحة ميدان النسور، أصرت وزارة الخارجية على تنفيذ شركات الأمن تغييرات كبرى بمجالي التدريب والسلوك، ما يعتبر إقراراً ضمنياً بالمسؤولية الأميركية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن فريق العمل الجديد المعاون لبايدن الذي سيتولى مسؤولية وزارة الدفاع يضم مسؤولين سبق لهم أن شنوا الحملة ضد تنظيم «داعش». وبعضهم يعتقد بضرورة استمرار حملات مكافحة الإرهاب، بما في ذلك استخدام الطائرات من دون طيار. وآمل أن يفتحوا تحقيقات جديدة بخصوص الضحايا المدنيين في العراق وسوريا؛ لأنه يتعين عليهم إدراك أن استخدام تكتيكات تقتل المدنيين من أجل محاربة الإرهاب ليس الحل - بصرف النظر عن موقف الرئيس ترمب.