إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لا لسينما الحجرة

«لا أريد مسرحاً على شاشة هاتفي الذكي. لا أحب قراءة القصائد في مواقع التواصل، ولا لقاء كبار المؤلفين من خلالها». كانت هذه هي الصرخة التي أطلقها، قبل يومين، المخرج جان لوي مارتينيلي عبر صحيفة «لوموند» الباريسية. إن الصحيفة نفسها لم تعد ورقاً في اليد، بل عصافير على الشجرة الإلكترونية. شبكة هائلة سلبت إنسان القرن الحادي والعشرين متعة الخروج من القوقعة والذهاب إلى المسرح والمكتبة والمتحف ودار الأوبرا وصالة العرض السينمائي.
ومارتينيلي مخرج يقف على عتبة السبعين من العمر. حفيت قدماه على خشبات المسارح الفرنسية، وكان مديراً للعديد منها، من ليون إلى ستراسبورغ مروراً بباريس. وهو اليوم ينكفئ حزيناً لأن جائحة «كورونا» فرضت العزلة وأغلقت المنافذ الثقافية. حرمت المواطنين من حقهم في الترويح. كان الفرنسيون موعودين بأن تلك المرافق ستعيد استقبال جمهورها مع بدايات العام الجديد. لكن توقعاتهم خابت، وأعلن رئيس الوزراء أن أبوابها ستبقى مغلقة إلى أجل غير مُسمّى. وهي، بالتأكيد، ليست بوابات الجنة، وقد يقرنها بعضهم بلظى الجحيم. لكن المتع الفنية، على أنواعها، تبقى من نفحات الفراديس.
يتمدد إنسان الزمن الراهن على أريكته ويتابع أحدث الأفلام عبر شاشة البيت. يتلفلف بالغطاء في سريره ويتفرج على حفل موسيقي. يغفو في المنتصف وتنطفئ الشاشة الموقوتة تلقائياً. لا حركة ولا بركة. غرباء مستوحدون مكممون يصبنون الأيدي ويعقمونها كل ساعة. وهي ظواهر بدأت قبل الفيروس واستفحلت بعده. تدهورت اللياقات وتنازلت العائلات عن «طلعاتها» وخروجاتها التقليدية الجميلة. كان أفرادها يرتدون أحسن ما لديهم وينزلون من البيوت ليشاهدوا مسرحية أو فيلماً. يصطفون في الدور ويتبادلون التحايا مع المعارف ولا يزاحم أحد أحداً. الكراسي مُرقمّة والمقصورات محجوزة لمن يشاء. يرتاحون على مقاعد مخملية ويتسلون بالهمس في انتظار بدء العرض. تلك كانت ممارسة اجتماعية بريئة طالها النكوص وابتلعتها الفوضى، ضمن ما ابتلعت.
عرفت بعض المدن العربية، في السنوات الأخيرة، محاولات لإحياء دور العرض. ظهرت صالات سينمائية قلائل في الأحياء الجديدة، أو ملحقة بمراكز التسوق وبالفنادق الكبرى، يمكن للنساء ارتيادها دون مجازفة. لكنها تبقى نخبوية، تحتاج لقرار يجعلها تتمدد وتخدم كل الفئات. فالأفلام والمسرحيات والعروض الموسيقية ليست ترفاً، بل مدارس موازية. فيها تتربى الأذواق وتتهذب الطباع. كم تبدو هذه العبارات مكررة وهرمة، ومن قاموس ما فات.
وعودة إلى صاحب الصرخة، المخرج مارتينيلي. إنه يدعو مواطنيه إلى تأملات جماعية في جدوى إغلاق المؤسسات الثقافية. قرار ضرب مئات الآلاف من الفنانين والفنيين وقطع أرزاقهم. وهو يتساءل: «أليس هذا الاعتقال طويل الأمد، الهادف للحفاظ على الأرواح، هو استباق للموت؟». اعتقال لا يكبّل الأجساد فحسب، بل والأرواح الباحثة عما يحرّك العقول وينعش القلوب.
يبلغ مجموع المشتغلين في حقول الفنون 760 ألف ناشط في فرنسا. لكنهم قادرون على بث البهجة في نفوس 67 مليون نسمة. فالأرواح، في نهاية المطاف، نسمات. وهي لا تطلب سوى أن تتنفس، ولو بكمامة.