تيريز رافائيل
TT

الاستثنائية الإنجليزية والعقبة الكبيرة على طريق «بريكست»

ينبغي لأي شخص يتابع الأيام الأخيرة من مفاوضات مغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي أن يتلقى علاجاً مجانياً لآلام العنق المبرحة. ففي إحدى اللحظات، تجد تفاؤلاً كبيراً بأن الاتفاق على وشك الإبرام، وفي اللحظة التالية فوراً ينتابك شعور بالكآبة الكبيرة لعدم وجود صفقة محتملة من الأساس. أغير أن تاريخ 31 ديسمبر (كانون الأول) من العام الجاري لمغادرة المملكة المتحدة عضوية الاتحاد الأوروبي هو ميعاد نهائي.
ربما تعتبر النزعة الاستثنائية الإنجليزية، التي يناصرها السيد بوريس جونسون بأكثر من أي زعيم بريطاني آخر، هي من أكبر العقبات التي تعترض سبيل اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. ويمكن للمملكة المتحدة أن تفعل ما يروق لها نظراً لأنَّها دولة محبة للحرية، أو لأنها «دولة أفضل» بكل بساطة. ولقد حققت هذه الروح الاستثنائية مكاسب سياسية معتبرة للسيد بوريس جونسون - مثل الاستفتاء على مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي ووصوله إلى رئاسة وزراء المملكة - ولكنها باتت تخاطر في الآونة الأخيرة بأن تجعل من الحل الوسط يبدو وكأنه إذعان واستسلام. وهذا من الأمور غير المقبولة تماماً لدى أنصار «البريكست» في بريطانيا.
كانت الفرصة متاحة أمام بوريس جونسون حتى يونيو (حزيران) الماضي من أجل التمديد لمدة عام واحد حتى تتمكن المملكة المتحدة من استيعاب صدمة وباء «كورونا» المستجد ومواصلة العمل على المفاوضات. ولكنه رفض ذلك بحجة أن ذلك التمديد سوف يؤدي إلى إرجاء وصول المملكة المتحدة إلى الآفاق الواعدة بالمستقبل الباهر بعد مغادرة عضوية الاتحاد الأوروبي. ربما. ولكن هذا يعني أيضاً أن مساحة الوقت المتاحة قليلة للغاية، وبالتالي تقل الفرصة السانحة أمام تحقيق أي شيء يُجدي بأكثر من الاتفاق على صفقة خروج هزيلة. ولقد أظهر رفضه تجاهله الصارخ للشركات والعمال في المملكة المتحدة الذين كانوا سوف يستفيدون من مزيد من الوقت في الاستعداد للتغييرات المقبلة. فهل سوف يتمكن رئيس الوزراء البريطاني من تغيير لهجته؟
إن حجة المتفائلين بسيطة للغاية: لا يوجد أمر أكثر تعقيداً، أو يسفر عن نتائج عكسية، أو معاقبة للذات من جارتين كبيرتين، وحلفاء الزمن الطويل، والمعتمدين اقتصادياً على بعضهم البعض، الذين يواصلون فرض العقبات والحواجز الكبيرة على أعمال بعضهم البعض. وهم بالتأكيد لن يفعلوا ذلك.
ويرى المتفائلون أن التهديد بانهيار المحادثات بين الجانبين هو جزء من المجريات المؤلمة ولكن الضرورية التي تجعل من التسوية السياسية أمراً قابلاً للتطبيق لكلا الجانبين. أما المتشائمون، من ناحية أخرى فيقولون إن كلا الجانبين يشعر بأنه يمكنه ابتلاع المغادرة البريطانية من دون صفقة بكل سهولة، أكثر من أي حل وسط يمكن الوصول إليه.
ويشكك المتفائلون في أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل – المعروفة ببراعتها في إبرام الصفقات – سوف تتدخل في اللحظة الأخيرة من أجل تهيئة الأجواء للوصول إلى اتفاق نهائي، على غرار ما فعلته في الأسبوع الماضي مع هنغاريا وبولندا – وهما اثنتان من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اللتان فعلتا كل ما بوسعهما من أجل تقويض أسباب وجود الكتلة الأوروبية من الأساس وبأكثر مما فعلت المملكة المتحدة نفسها. غير أن المتشائم يظن أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - السياسي الذي يواجه الضغوط السياسية الكبيرة والانتخابات الإقليمية الخادعة - سوف يرفض الاستمرار في مسايرة الأمر وإصدار قرار الرفض.
ويقودنا هذا الأمر إلى الاختيار الذي يواجه بوريس جونسون. بعد أن عزز من مواقفه السياسية والشخصية حول فكرة النزعة الاستثنائية، ومن المحتمل أنه لا يرغب في وصمها بالوصول إلى الحل الوسط في الآونة الراهنة. لكن في كل مرة تتبنى حكومته هذا الموقف يتسبب في مزيد من الأضرار.
كان تصور النزعة الاستثنائية البريطانية هو الأساس في كل الأخطاء ذات الصلة بمغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي، تماما على غرار الأخطاء السياسية المرتكبة في التعامل مع أزمة الوباء. أجل، المملكة المتحدة دولة عظيمة، ولكن ليس لدرجة ألا تنسحب عليها قوانين التجارة المعروفة. وهي ليست عظيمة للدرجة التي تمكنها من كبح جماح الوباء من دون بناء قدرات الاختبار وفرض حالة الإغلاق العام على المواطنين فيها.
يشير نداء النزعة الاستثنائية الإنجليزية الراهن إلى أنه لا توجد هناك مشكلة في عدم إبرام الصفقة، نظرا لأن المفاوضات سوف تستأنف في العام الجديد بعد أن أعلن الجانبان عن تحقيق النصر. ومع ذلك، فمن شأن أي جولات تفاوضية جديدة أن تستلزم التعامل مع نفس الخيارات العسيرة التي يواجهها بوريس جونسون اليوم. وفي واقع الأمر، فإن كلتا الصفقتين اللتين أبرمهما بوريس جونسون منذ أن تولى مسؤولية رئاسة وزراء المملكة المتحدة - الصفقة التي أبرمت مع ليو فارادكار الآيرلندي في تأمين اتفاقية الانسحاب، والصفقة التي توسط فيها مايكل غوف خلال هذا الأسبوع والتي ضمنت مواصلة التزام الحكومة إزاء الحدود الآيرلندية - قد شهدتا تمسك الاتحاد الأوروبي بالخطوط الحمراء المهمة والمعلنة من جانبه مسبقاً.
يتمحور موقف الحكومة البريطانية حول أن مغادرة الاتحاد الأوروبي من دون صفقة تجارية واضحة سوف ترجع بتكاليف قصيرة الأجل، وأن هذه التكاليف تعتبر طفيفة عند المقارنة بسياق الوباء الفتاك الراهن، وأن الناس سوف يتجاهلون ذلك لأنهم في نهاية الأمر سوف يحصلون على الحرية التي يطالبون بها. بيد أن هذه تعد مقامرة خطيرة.
إذا لم يعبأ السيد بوريس جونسون بإبرام الصفقة التجارية مع الاتحاد الأوروبي، فسوف يزعم – من دون شك – بأنه قد اتخذ موقفا صارما من أجل الحرية والسيادة، وسوف يجد جمهورا يملك آذاناً صاغية لتلقي مثل هذه الرسالة. وبعد كل شيء، فمن الأفضل أن تشعر أنك في موضع استثنائي بأكثر من المعتاد. غير أن التسوية هي من السرديات التي يصعب تسويقها على الإطلاق.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»