فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

هل يستعيد «خير جليس» زمان يُسره؟

من بين ضحايا الجائحة الشريرة التي لم تميز بين مجتمع أغنياء دول القارات الست، ومجتمعات الفقراء في معظم هذه الدول، اضطراب ظاهرة معارض الكتاب التي تقام في الدول العربية.
منذ انطلاق هذه المبادرة من بيروت، أخذ الكتاب العربي يشق طريقه إلى البيوت في ديار الأمة، ذلك أن إقامة معرض الكتاب لم تعد مقتصرة على الريادة؛ وإنما بدأت المعارض تتوالى في كل عاصمة عربية، وفي بعض الدول كان يقام المعرض في مدينتين، وعلى سبيل المثال؛ معرض الكتاب في الرياض ومثيله في جدة.
ومع كل معرض كتاب، وفي ضوء الإقبال عليه، كانت دور النشر تنشط أكثر، وبالتالي تزداد الإصدارات، وتتنوع الموضوعات، وينتسب مؤلفون جدد تتراوح اهتماماتهم بين الأعمال القصصية، والبحثية، إلى «برج التأليف»؛ ثالث عشر الأبراج الفلكية، فضلاً عن أن المرأة العربية، ومن خلال أعمال روائية، حجزت مكاناً لها في المشهد الثقافي العربي.
ورغم تعرُّض دور النشر إلى جائحة من نوع آخر، هي جائحة مزوّري بعض الكتب، بحيث تباع النسخة بنصف أو أقل من سعرها الأصلي، ما دام لا وجود لتكاليف إنتاج وحقوق تأليف، فإن دور النشر ثابرت، واستمرت الظاهرة على نموها ومعارض الكتاب على حيويتها في العواصم وبعض المدن العربية، بدون استثناء.
ثم حلت «كورونا»؛ جائحة شريرة لم تكن في الحسبان، تصيب الظاهرة الثقافية أسوأ إصابة نتيجة انشغال الجهات الحكومية المختصة بصحة الناس التي تتقدم على أي مشوِّقات ذات طابع ثقافي. وإلى ذلك؛ كان الحجْر وكان التباعد والكمامات، ثم يأتي الارتباك الأهم الناشئ عن عدم السفر. وتحولت الأماكن التي تتم فيها إقامة المعرض السنوي للكتاب، إلى مشافي طوارئ، وذلك أن المستشفيات العادية لم تعد قادرة على استيعاب مَن أصابتهم الجائحة وبات وضعهم في العناية المؤقتة أمراً ضرورياً.
وسط هذه المحنة المباغتة جاءت الخطوة اللافتة من جانب إمارة الشارقة تبعث بعض الطمأنينة بأن ظاهرة معارض الكتاب العربية على موعد مع نهوض من الانتكاسة، بل يجوز تشبيه انعقاد دورة معرض الكتاب في الشارقة لعام 2020 (من 4 إلى 14 نوفمبر/ تشرين الثاني)، بأنه مثل اللقاح غير المحسومة نتائجه لعلاج الجائحة، إلا إن مجرد التوصل إلى اكتشافه وإجراء تجارب واعدة عليه يبعث في النفس البشرية العابقة بهاجس الإصابة بالفيروس الذي لا يرحم، الطمأنينة بأن لكل داء دواءً، وأن رحمة الله حاضرة دائماً في ساعة الشدة... «ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوب».
وبصرف النظر عن الإقبال الذي جاء دون المألوف بسبب الإجراءات المشددة من أجل الحماية وتجنب المكاره، فإن انعقاد المعرض الذي سجل أنه الوحيد الذي ينعقد خلال محنة الجائحة الشريرة والمميتة في حالات من عدم مواجهتها بالاحتياطات على أنواعها، سيشجع وزارات الثقافة في الدول التي اعتاد الكتاب العربي على أن يكون ضيفاً مستحب الجانب من شعبها، مؤدياً دوره وسيلةً من وسائل الثقافة والمعرفة التي بلغت الذروة خلال السنتين الماضيتين في المملكة العربية السعودية.
إلى ذلك؛ فإن إتمام فريضة الحج وبأعلى درجات النجاح ضمن إجراءات احترازية عددية وتنظيمية وصحية قبل أداء الفريضة وخلال أيامها؛ من الطواف، إلى الصعود إلى مِنى، إلى رمي الجمرات، فالوداع الإيماني، ومن دون ما يعكر الصفو، شكّل مثلاً في دنيا المناسبات التي تحل مواعيدها في حالات طارئة ويشكل التعامل معها تحدياً للدولة التي تستضيف المناسبة.
تبقى الإشارة إلى أن الشارقة بهذا التحدي وعقد معرضها الدولي للكتاب أثلجت صدور كوكبة من مجتمع النشر في بعض العواصم العربية، وبالذات بيروت والقاهرة، وتلك مأثرة تُذكر لحاكمها الشيخ سلطان القاسمي، وعلى هذا الأساس سيبقى الكتاب العربي المنشور ورقاً يأخذ مكانه ومكانته «خيرَ جليس للأنام».
ويبقى أن الذي يتحقق على أرض الشارقة للكتاب العربي، كان يتطلع إليه الرئيس رفيق الحريري الذي في سنواته السياسية؛ التي لم تكتمل، استعادت بيروت رونقها عاصمةً لـ«لبنان النشر» الذي اصطُلح على توصيفه بعبارة: «لبنان يطبع والعالم العربي يقرأ». وبات المعرض السنوي للكتاب فيها بمثل ما هو عليه معرض القاهرة الذي احتجب في العام الكوروني ومعرض الشارقة الذي واجه الجائحة وانعقد.
ثم تدور الدوائر ويبدأ غروب الأحلام الجميلة عن هذا الوطن، ومنها معرض الكتاب، كما يشمل الغروب المتدرج كل ملامح الوجه الجميل للعاصمة التي رثاها قبل زلزال تفجير مرفئها بثلاث عشرة سنة الدكتور غازي القصيبي، رحمة الله عليه، بأبيات وجدانية أشبه بالرثاء، ومنها قوله:
بيروت ويحك أين السحر والطيب
وأين حُسْن على الشطآن مسكوب
بيروت! ماذا يقول الناس؟هل ذُبحت
بِيضُ الأماني وغال الطفلة الذيب؟
ثم زاد محبها الدكتور عبد العزيز خوجة حزناً على حزن بمرثية جاء فيها على وقْع الذين قتلوا وتصدعت منازلهم، بقوله:
وبحثتُ عن بيروت ما بين التوله والركام
وسمعتُ أنَّات تنادي لهفتي تحت الحطام
بيروت قد سُرقت وباعوها لأحلام اللئام
هذا إلى المرثية النثرية لثالث الرموز الدبلوماسية الدكتور علي عواض عسيري: «بيروت عروس العرب... مدينة التاريخ... حبيبة الشعر والشعراء... أم الشرائع».
ومن باب التفاؤل بالخير يهل على العباد المتفائلين، نتفاءل بأن «خير جليس» ستُستأنف معارضه، فيستعيد عزه نشراً لمئات المؤلفات في ظل المبادرة ذات البعد الاستراتيجي انسجاماً مع «رؤية السعودية 2030»، المعقودة آمال إنجازها على الأمير محمد بن سلمان ولي العهد. ونعني بالمبادرة «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية»، التي ستشكّل هي الأخرى اختراقاً للعتمة الثقافية الناشئة عن أجواء الجائحة التي جرفت في طريقها كثيراً من مباهج الفرح، فضلاً عن أنها تستهدف؛ على نحو قول الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة، إبراز مكانة اللغة العربية وتفعيل دورها إقليمياً ودولياً.
بوركت الاهتمامات التي تريح العقول وتبهج النفوس وسط ضوضاء الكلام عن حروب البشر بعضهم ضد بعض، وحرب «كورونا» ضد كل البشر. والله خير حافظاً.