جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: هل ينجح الحوار فيما فشلت فيه الحرب؟

مساء الأحد الماضي، انتهت أول جولة من ملتقى الحوار السياسي الليبي في العاصمة التونسية، بعد أسبوع من نقاش، جمع 75 شخصاً يمثلون فئات المجتمع الليبي بتنوعاته، وستعقبها جولة أخرى قبل نهاية هذا الشهر.
عقب اختتام الحوار، عقدت السيدة ستيفاني ويليامز، نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، والمشرفة على الحوار بأجزائه الثلاثة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية، مؤتمراً صحافياً في ساعة متأخرة من اليوم نفسه، أجابت فيه بصراحة وبصدق عن الأسئلة التي وجهت إليها من قبل الصحافيين الحاضرين. ورغم التعب والإجهاد، بدت ملامح وجهها مستبشرة. وعبّرت عن سرورها بنجاح المجتمعين في الاتفاق، حول كثير من النقاط المهمة والعصيّة حسب وصفها، رغم فشلهم في الوصول إلى اتفاق حول قوائم بأسماء المترشحين لتولي المناصب القيادية في المجلس الرئاسي والحكومة، لاختلافهم حول المعايير. وانتهى الاجتماع بعودة المجتمعين إلى ليبيا بغرض التشاور مع الجهات التي يمثلونها، وعلى أمل العودة للحوار مرئياً قبل نهاية الشهر، بهدف الوصول لاتفاق.
ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي الليبية، على الإنترنت، بردود الأفعال بين مؤيدين للحوار ومعارضين له. وهو أمر متوقع، في واقع اجتماعي قسّمته الأحداث، وطحنته أزمة الصراع الطويل على السلطة، ودمرت الحرب أحلامه في الحياة بكرامة في وطن ديمقراطي، وقضت على آمال شبابه، وقوضت مستقبل أطفاله. ما يهمُّ حقاً، في رأيي، هو أن الليبيين بتاريخهم وبطبيعتهم وبظروفهم ليسوا على علاقة ودية مع الحوار وآلياته، وأهميته ودلالاته وما يقدمه من فرص لإنهاء النزاعات، هذا أولاً.
أما ثانياً، فإن الليبيين غفلوا عن أهمية لقاء الأطراف المتنازعة سلمياً، وجهاً لوجه، بعيداً عن لغة الرصاص والتهديد والقتل والكراهية والإقصاء. وتجاهلوا، أيضاً، وهذا ثالثاً، حقيقة ماثلة بينهم، وهي أن ما تمّ الوصول إليه بالحوار – في أجزائه الثلاثة – خلال أسابيع تعدّ قليلة، عجزت الحرب عن تحقيقه نحو عقد من الزمان.
خلال حديثها في المؤتمر، أكدت المبعوثة الأممية على استحالة استمرار الوضع الراهن، وضرورة تغييره لأنه يقود إلى طريق مغلق، لا يستفيد منه إلا فئة معينة، وصفتهم بالدناصير. وأوضحت أن الدناصير انقرضت من الطبيعة لعدم قدرتها على التغير، وأن دناصير الواقع الليبي عليهم تعلم الدرس، بضرورة تغيّرهم، وإلا سيكون مصيرهم الانقراض! لكن الحقيقة التي غفلت عنها السيدة ويليامز هي أن الدناصير الليبية المعنية، المسيطرين على الوضع منذ سنوات، بانتهازيتهم السياسية وارتباط مصالحهم بمصالح أطراف خارجية متنوعة ومتنافسة، ومتورطة في النزاع الليبي، ومهاراتهم المتعددة، والمكتسبة من تجارب السنوات الماضية، في وضع العصي في أي دولايب يحتمل دورانها على طريق يقود إلى عقد انتخابات، تفضي إلى التخلص منهم، أو تغيير الوضع الراهن، بما قد يؤدي إلى الإضرار بمصالحهم ومصالح شركائهم. وبالتالي، فإن دعوة الدناصير الليبية إلى التغير، يتطلب قبلها، في رأيي، إقناع الدول التي تدعمهم، سياسياً وعسكرياً ومالياً، بضرورة التوافق فيما بينها، بما يضمن توافق الأطراف الليبية، لأنهم وكلاء محليون لهم، يتحركون وفقاً لما يتلقون من تعليمات. ولهذا السبب، أعتقد أنه، ما لم يتم توريط الدول الخارجية في الحوار بشكل ما، والحصول على موافقاتها على مخرجاته، فإننا سنرى، بعد وقت قصير من نهاية جولات الملتقى كثيراً من المناورات السياسية الهادفة إلى زعزعة الاستقرار الهشّ، وخلق حالة أمنية تستدعي تأجيل تلك الانتخابات، أو التخلص منها نهائياً، كما حدث في أحداث الماضي.
الأمر الآخر الجدير بالاهتمام هو تدخل المال الفاسد في الحوار. فقد تبيّن أن بعض الحاضرين في الملتقى في تونس، اعترفوا بتلقيهم عروضاً مالية تصل إلى أكثر من 200 ألف دولار أميركي لكل منهم، لقاء التصويت لأشخاص معيّنين من المرشحين للمناصب القيادية. السيدة ويليامز خلال المؤتمر الصحافي لم تنكر الخبر، وأجابت بأن البعثة الأممية باشرت فورياً التحقيق في الموضوع، وهددت بتعرض المذنبين للعقاب في حالة إثبات التهم ضدهم، بوضعهم على قائمة العقوبات الأممية. السؤال الذي ربما فات السيدة ويليامز أن تسأله؛ لماذا يحرص أصحاب الأموال على تقديم رشاوي مالية كبيرة، من أجل الحصول على أصوات تؤهلهم لتولي مناصب قيادية؟ والإجابة لأنهم راكموا ثرواتهم، خلال السنوات العشر الأخيرة، بوسائل مخالفة للقانون، وبالتالي فمن المهم لهم السيطرة على مراكز صنع القرار، حماية لأنفسهم من التعرض للمساءلة القانونية عما قاموا به من نهب للمال العام. وهم في ذلك مثلهم مثل قادة الجماعات المسلحة الذين يعارضون ويقاومون تغيير الوضع الراهن، لأن التغيّر يجعل من إمكانية تعرضهم للمساءلة القانونية، عما ارتكبوه من جرائم، أمراً واقعاً.
ومع ذلك، ورغماً عن كل أوجه التقصير، ومحاولات التخريب المتعمدة، والمتواصلة، فإن ملتقى الحوار السياسي الليبي خطوة سياسية نتمنّى على الله أن يكتب لها النجاح، والخروج بليبيا من النفق المظلم الذي أدخلت فيه عنوة.