في كتاب «العراب - الأب الروحي»، ذلك الذي ألهمت صفحاته جيلاً كاملاً من عتاولة مجالس إدارة مختلف الشركات، أقصى مايكل كورليوني صديقه الموثوق به للغاية توماس هاغن عن منصبه القديم كأوثق مستشاري عائلة كورليوني الكبيرة، وعندما استفسر هاغن متسائلاً عن سبب إقصائه المفاجئ عن دوره القديم في العائلة، كانت إجابة كورليوني بسيطة وواضحة للغاية: «توماس، أنت لست مستشاراً في زمن الحرب».
يواجه بوريس جونسون رئيس وزراء المملكة المتحدة عكس هذا الموقف تماماً في الآونة الراهنة. فلقد كانت ثقته عميقة وكبيرة بدومينيك كامينغز، رئيس موظفيه المثاليين وكبير مستشاريه الاستراتيجيين في زمن حروب الانتخابات العامة وحملاتها الشرسة. غير أن ما يحتاج إليه بوريس جونسون في الفترة الراهنة - وربما المقبلة أيضاً - هو مستشار لزمن السلم، ذلك الذي يدرك على نحو مدروس كيفية التوفيق بين مختلف الأطياف والتيارات - أو على أقل تقدير ممكن، تلك الشخصية التي يمكنها الحديث بكل هدوء وروية وهو يحمل في يده هراوة ثقيلة وغليظة. وتحقيقاً لمثل هذا التوازن المطلوب، برغم كل شيء، يعتبر جونسون نفسه في حاجة إلى إدراك المهم من الأمور التي باتت على المحك. ومن بينها جائحة فيروس كورونا المستجد التي تعصف - ولا تزال - بأركان قدرته على المواصلة والاستمرار في قيادة البلاد.
كان جونسون قد رفض في الآونة الأخيرة فقط مطالب حزب العمال المعارض بالإغلاق العام لمدة أسبوعين خلال نصف الفصل الدراسي، رغم أن جونسون نفسه فرض الإغلاق الكامل في كل أرجاء البلاد اعتباراً من أول من أمس الخميس. ومن الواضح أن نواب الكتلة الليبرالية في حزبه المحافظ يعانون من فورة غضب عارمة بسبب التغيرات المفاجئة الجارية. كما تعكس استطلاعات الرأي تعثر مستويات الثقة في مقدرة حكومة بوريس جونسون على التعامل مع أزمة الوباء الراهنة والمستمرة. وتلك هي المرة الثانية التي يقاوم فيها بوريس جونسون قرار الإغلاق العام، قبل أن يلجأ في وقت لاحق إلى الاستعانة بمستشاريه الصحيين. وأفاد استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة «يوغوف» في الأسبوع الماضي، بأن نسبة لا تتجاوز 4 في المائة فقط من الناخبين يعتقدون أن رئيس الوزراء البريطاني قد قام بعمل جيد للغاية في التعامل مع أزمة وباء كورونا الراهنة.
تشير القاعدة الانتخابية في المملكة المتحدة إلى أنه ليست هناك حلول سهلة لأزمة وباء فيروس كورونا المستجد. بيد أنهم ينتظرون من رئيس وزراء البلاد أن يتواصل مع الشعب البريطاني بأسلوب يعكس إدراكه التام وتفهمه الكامل لمعاناتهم ومشكلاتهم. ولقد شرعت الحكومة البريطانية لتوها أخيراً في إدراك ماهية المشكلة الحالية. وكان بوريس جونسون قد ظهر في نهاية الأسبوع الماضي - وللمرة الأولى - على شاشات التلفاز رفقة خطيبته كاري سيموندس، وذلك خلال حفل لتوزيع جوائز «برايد أوف بريتن» الموجهة لتكريم موظفي الرعاية الصحية من أطباء وهيئة تمريض في المملكة المتحدة، تقديراً لشجاعتهم وتفانيهم في أداء أعمالهم وخدمة بلادهم.
كان حزب المحافظين معروفاً في يوم من الأيام بأنه «الحزب السيئ»، وكان أفضل ما يمكن وصف أعضائه به هو أنهم كانوا رعاة صغاراً على اقتصاد البلاد ممن يؤمنون إيماناً مهلهلاً بالفردانية والحرية. وعلى مدار العشرين سنة الماضية، ظل قادة الحزب يحاولون إثبات أنهم يملكون قلباً نابضاً بالحياة كمثل بني البشر الآخرين سواء بسواء.
ومما يؤسف له، وفي غضون أسبوعين اثنين فقط، بدا بوريس جونسون كأنه خرج لتوه من بين صفين سياسيين في حالة سيئة للغاية ومن دون سبب واضح. وكان يبدو أنه يصم أذنيه في تعمد واضح عندما يتعلق الأمر بالجمع بين أدوات القوة والتعاطف في آن. وسواء كان الأمر في دهاليز السياسة أو في ثقافة الشركات الكبرى، فإن التعاطف يكون عليه مدار كل شيء.
تعكس بعض اللقطات الأخيرة حالة العجز الراهنة، منها تعثر المفاوضات بين بوريس جونسون وآندي بورنهام - عمدة مجلس مدينة مانشستر الكبرى من حزب العمال - بشأن فرض القيود الأكثر صرامة بشأن فيروس كورونا المستجد حال المساومة على التعويضات المالية المطلوبة للمدينة. ثم فرضت الحكومة البريطانية في وقت لاحق إرادتها في تلك المسألة مع الشيء الطفيف من التفاسير الموضحة للأمر وموقف رافض تماماً من جانب بوريس جونسون. ولقد أثارت الطريقة الارتجالية الغضب بأكثر مما كان سوف يثيره مبلغ الخمسة ملايين جنيه إسترليني الذي كان نقطة الفصل بين الجانبين المتفاوضين. كما جانب عمدة مانشستر الصواب عندما تعمد البعث بإشارات الفضيلة، لكن في اللعبة السياسية غالب الأمر ما يكون ذلك هو أفضل من الإشارة إلى العكس. ثم وُصف بوريس جونسون بأنه المواطن الجنوبي غير العابئ والمسرور للغاية بقرارات الإغلاق التي يعاني منها سكان الشمال على مسافة ليست بالقصيرة.
وفي محاولة لتأكيد عجزه عن ممارسة التعاطف، برزت على سطح الأحداث مرة أخرى مسألة تلاميذ المدارس من أبناء العائلات المعوزة في البلاد. وكان ماركوس راشفورد، لاعب كرة القدم في منتخب إنجلترا ونادي مانشستر يونايتد، والبالغ من العمر 22 عاماً، والنموذج الذي يُحتذى للشبان البريطانيين السود، قد فاز بحملة نُظمت قبل 4 شهور لمنح الأطفال الأكثر حرماناً في إنجلترا الوجبات المدرسية المجانية خلال العطلة المدرسية الصيفية. وكانت الحكومة البريطانية قد عارضت تلك الفكرة في بادئ الأمر، ثم رجعت وأذعنت بعد ذلك في وقت لاحق.
لكن عندما عاد راشفورد وطالب بتمديد الفكرة نفسها على 1.3 مليون طفل من أبناء المدارس خلال عطلات نصف العام الدراسي والعطلات المدرسية الشتوية، جاء الرد الحكومي بالرفض القاطع. وكان النزاع بين الجانبين على مبلغ لا يتجاوز 60 مليون جنيه إسترليني لا غير. وبالنظر إلى مليارات الجنيهات الإسترلينية الأخرى التي جرى إنفاقها بالفعل في دعم اقتصاد البلاد، فإن هذا المبلغ ليس إلا قطرة في خضم المحيط.
كما بذل بوريس جونسون الجهود الطفيفة للغاية في مناشدة الناخبين من اسكوتلندا الذين تساورهم فكرة تنظيم جولة جديدة من الاستفتاء على استقلال بلادهم، فضلاً عن أعضاء النقابات العمالية المتقلبين الذين لا تستميلهم خطاباته المنمقة الرنانة ولا ترهبهم تهديداته الرعدية الصاخبة. وكشف استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة «جيه إل بارتنرز» في يوم الجمعة الماضي، أن كراهية بوريس جونسون تعد هي العامل الحيوي الحاسم في دفع سكان اسكوتلندا على طريق المطالبة بالاستقلال.
ولقد تحول الرأي العام في البلاد إلى المزيد نحو أفعال الدولة وأداء المجتمع أثناء أزمة الوباء. فهل أدرك جونسون ورفاقه حقيقة الأمر؟ وبخلاف ريشي سوناك وزير الخزانة البريطاني الحالي، هناك حالة من التضاؤل الواضح في المواهب الإعلامية الفذة بين أعضاء مجلس الوزراء البريطاني. ومن الواضح أن دومينيك كامينغز - كبير مستشاري بوريس جونسون - لا يحظى بأي مكانة لدى الرأي العام في خضم الأزمة الصحية الراهنة. فلقد كسر قواعد الحجْر الصحي الصارمة التي ساعد في صياغتها وتشكيلها أول الأمر مع قرارات الإغلاق الأولى.
حتى أكثر نساء المملكة المتحدة صلابة وصرامة - وهي رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر - كانت معنية بالعامل الإنساني. فلقد كانت أول رئيسة وزراء للبلاد تواظب على الظهور الإعلامي بصفة منتظمة في البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الفترة الصباحية، كي تبعث بإشارة إلى الشعب البريطاني بأنها ليست مجرد امرأة سياسية محاربة. وفي ذروة إضراب عمال المناجم المرير بين عامي 1984 و1985 من القرن الماضي، ظهرت ثاتشر في قرية إنجليزية فقيرة من أجل منح الدعم العاطفي لزوجات عمال المناجم البائسات، الذين لم يشاركوا في الإضراب.
يواصل بوريس جونسون التخاطب بروح من الدعابة المبهجة، أو لعله يبدو أنه لا بشعر بآلام ومعاناة الآخرين. وتلك بالضبط كانت مشكلة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق المتشدد للغاية غوردن براون؛ إذ كان مساعدوه ومستشاروه يطلبون منه باستمرار الاهتمام والتواصل مع مخاوف الناخبين العاديين، أو على الأقل إظهار قدر من الاستماع لمشاكلهم. وكان براون يعلن موافقته على ذلك ثم يواصل الاستمرار في أسلوبه الفظ المتعالي كالمعتاد. وكانت تلك المشكلة من أبرز العوامل التي أسفرت في خاتمة المطاف عن هزيمته في الانتخابات العامة في عام 2010.
تدرك حكومة بوريس جونسون تماماً أن الاتصالات في حاجة إلى التغيير اللازم. وتشير استعانة الحكومة بالصحافية المخضرمة أليغرا ستراتون في عرض وجهة النظر الرسمية في المؤتمرات الصحافية المصورة إلى البدء في اعتماد تلك التغييرات المنشودة. ومع ذلك، فلن تكون مهمتها يسيرة على أي حال.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»