عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أخبار إيجابية في المعركة مع «كوفيد ـ 19»

«ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».
هذا عجز بيت شعر يصدق على أمور كثيرة، لكنه يعبر تماماً عن التجاذبات التي يعيشها الناس وسط دوامة أخبار كوفيد - 19. فالعالم يعيش حالياً على وقع أخبار التصاعد في الإصابات والكلام عن موجة ثانية من الفيروس المرعب دفعت العديد من الحكومات لفرض قيود جديدة. لكن الصورة لا تخلو أيضاً من بعض بوارق أمل.
في بريطانيا التي بدأت أمس تطبيق خطة الثلاث مراحل المتدرجة التي تفرض بمقتضاها القيود على الأنشطة والتجمعات والحركة، وفقاً لفداحة انتشار الفيروس، تتسارع أيضاً وتيرة التجارب على اللقاحات التي وصل بعضها إلى مراحل متقدمة. فقد بدأ مستشفى «رويال فري» في لندن هذا الشهر المراحل النهائية من التجارب على اللقاح الذي طورته شركة «نوفافاكس» والذي كان قد أظهر نتائج إيجابية. وفي هذه المرحلة الثالثة من التجربة يتلقى المتطوعون جرعتين من اللقاح خلال ثلاثة أسابيع يكونون خلالها وبعدها تحت المراقبة الدورية لرصد تأثيره عليهم، وما إذا كانت هناك أي أعراض جانبية.
اللافت أن تجربة «رويال فري هوسبيتال» شاركت فيها ضمن المتطوعين السيدة كيت بينغهام رئيسة اللجنة المسؤولة عن شراء وتأمين مخزون بريطانيا من اللقاحات ضد كوفيد - 19، ما يعني اهتماماً كبيراً بالتجربة في مرحلتها النهائية هذه التي يشارك فيها نحو عشرة آلاف شخص وتجرى بالتزامن مع تجارب في دول أخرى حول العالم.
تجربة «رويال فري هوسبيتال» ليست الوحيدة التي بلغت مراحل متقدمة في بريطانيا، فهناك تجربة جامعة أكسفورد التي حظيت باهتمام واسع حول العالم بعد النتائج الأولية المشجعة التي حققتها ونُشرت في يوليو (تموز) الماضي. فالتجارب التي أجريت في أكسفورد على 1077 شخصاً توصلت إلى أن اللقاح الذي تم تطويره مع شركة «آسترا زينيكا» تسبب في تحفيز الأجسام المضادة واستجابة جيدة من الخلايا بعد جرعة معززة. وبعد أن بلغ اللقاح المرحلة الثالثة الحاسمة، توقفت التجربة في 8 سبتمبر (أيلول) بعد تعرض أحد المشاركين في بريطانيا لرد فعل سلبي. وأعلن لاحقاً أن رد الفعل الذي عانى منه المشارك في التجربة قد لا يكون ناتجاً عن اللقاح التجريبي نفسه، بل من حالة أخرى يعاني منها ذلك الشخص. لذلك أعلنت جامعة أكسفورد الشهر الماضي أن تجربة اللقاح ستستأنف في بريطانيا رغم توقفها في الولايات المتحدة.
إضافة إلى هاتين التجربتين هناك تجارب أخرى واعدة حول العالم من أميركا وألمانيا وفرنسا، إلى الصين وروسيا والهند. فحسب منظمة الصحة العالمية هناك أكثر من 169 لقاحاً قيد التطوير في دول مختلفة، نحو 26 منها بلغت مرحلة التجارب البشرية، بعضها وصل طور التجارب الثلاثة المتقدمة. لكن يبدو أن الحكومة البريطانية تراهن وفقاً لتقرير بثته قناة «سكاي نيوز» الإنجليزية على ست تجارب تراها واعدة. فإضافة إلى تجربتي أكسفور و«رويال فري هوسبيتال» هناك اللقاح الذي تعمل عليه شركتا «بايونتيك» الألمانية و«فايزر» الأميركية، واللقاح الذي تعمل عليه «جونسون آند جونسون» الأميركية، أو ذلك الذي طورته شركتا «سانوفي» الفرنسية و«غلاكسو سميث كلاين» البريطانية. كل هذه اللقاحات بلغت مراحل متقدمة من التجارب ما يعزز الآمال في إمكانية حدوث اختراق مبكر رغم التحفظات السابقة.
كبير المستشارين العلميين في بريطانيا، سير باتريك فالانس، بدا متفائلاً مع طريقته المتحفظة المعهودة، إذ قال مؤخراً إنه ليس مستبعداً أن يتوفر لقاح ضد كوفيد - 19 بنهاية العام الحالي، لكنه سيكون بكميات صغيرة ولمجموعات معينة من الناس. عدا ذلك فإنَّ أي لقاح ينتج على نطاق واسع قد لا يتوفر قبل العام الجديد، هذا بالطبع إذا تخطت التجارب المتقدمة الراهنة عتبة المرحلة الثالثة وحصلت على التصديق اللازم للإنتاج من السلطات الصحية.
العالم موعود أيضاً في يناير (كانون الثاني) المقبل بتجربة رائدة ستجرى في «رويال فري هوسبيتال» بلندن حيث يتوقع أن يتم تلقيح متطوعين بلقاح طورته «إمبريال كوليدج»، ثم يعرضون لفيروس كورونا لمعرفة مدى نجاعة اللقاح. مثل هذه التجارب التي يطلق عليها اسم «تجارب التحدي» تثير عادة كثيرا من الجدل الأخلاقي، لكنها تعد خطوة مهمة للحصول على إجابة سريعة حول ما إذا كان اللقاح فعالاً قبل إنتاجه وتوزيعه على نطاق واسع.
ومع السباق المحتدم تتبنى منظمة الصحة العالمية مبادرة عالمية للعمل مع مصنعي اللقاحات لالتزام تمكين مختلف دول العالم من الوصول العادل إلى لقاحات آمنة وفعالة، بمجرد ترخيصها والموافقة عليها. والهدف هو ألا يحرم السباق على هذه اللقاحات الدول الفقيرة من الحصول عليها في وجه منافسة غير متكافئة مع الدول الغنية. والمبادرة المعروفة باسم «كوفاكس» (اختصار كلمتي لقاح كوفيد باللغة الإنجليزية) تعتبر وفقاً لمنظمة الصحة أكبر محفظة لقاحات لمواجهة الكوفيد -19 وأكثرها تنوعاً في العالم وتشمل تسعة لقاحات مرشحة، مع تسعة لقاحات أخرى قيد التقييم، وتجري المحادثات مع دول وشركات أدوية أخرى لضم منتجاتها إلى المحفظة. وحتى الآن فإنَّ مشاورات مبادرة كوفاكس تشمل 172 بلداً ومؤسسة.
في انتظار تطوير لقاح لا ننسى الإشارة إلى أن الطب أحرز تقدماً كبيراً في مجال العناية الصحية بمرضى كوفيد - 19 مقارنة بالفترة الأولى من انتشار الفيروس. فمنذ ذلك التاريخ بدأ العلماء والأطباء يفهمون أكثر عن المرض ونجحوا باستخدام أدوية متوفرة مثل «ريميديسفير» و«ديكساميثازون» في تقليل فترة العلاج وفي مساعدة كثير من المرضى في تجاوز الفترة الحرجة والتغلب على المشاكل التنفسية من دون الحاجة إلى أجهزة التنفس الصناعي إلا في الضرورة القصوى. وقد أدى ذلك إلى انخفاض نسبة الوفيات بشكل مطّرد.
صحيح أن المرض أودى بحياة أكثر من مليون إنسان حول العالم، وهو رقم مفزع، إلا أن عدد من تعافوا منه يتجاوز 26 مليون إنسان. ومع ذلك يبقى مرضاً خطيراً لأنَّ الفيروس المسبب له سريع الانتشار، لهذا تشدد كل الحكومات والجهات العلمية والطبية على ضرورة توخي الحذر واتباع إرشادات الوقاية.
المشكلة الكبرى تكمن في الضغوط التي تواجهها الحكومات لتحريك عجلة الاقتصادات التي تعرضت إلى ضربات عنيفة بسبب الجائحة. ففي الآونة الأخيرة صدر بيان باسم «إعلان بارينغتون العظيم» حمل توقيع 15 ألفا من العلماء والعاملين في القطاع الصحي من بينهم أساتذة طب في هارفارد وأكسفورد وستانفورد. ومنذ البداية كان واضحاً أن الإعلان سوف يثير الجدل ويواجه انتقادات لأنه أخذ توجهاً مخالفاً للإجماع العالمي والتوجه الذي اتبعته معظم الحكومات التي قررت إغلاق الاقتصاد وتعطيل كثير من الأنشطة لكبح جماح الفيروس، وتقليل الوفيات الناجمة عن كوفيد - 19. فالموقعون على الإعلان يرون أن الاستراتيجيات الحالية في الإغلاق سببت أضراراً هائلة للاقتصادات ومعاناة رهيبة للناس، وفشلت في الوقت ذاته في كبح جماح الفيروس الذي يبدو أنه يعود الآن في موجة ثانية. ولذلك فإنَّهم يجادلون بأن الشباب الذين تقل نسبة مخاطر إصابتهم بالفيروس، يجب أن يسمح لهم بممارسة حياتهم الطبيعية من دون قيود أو معوقات، على أن توجه الحكومات مواردها للتركيز على حماية كبار السن والفئات التي تواجه خطراً أكبر بسبب حالتها الصحية.
ورغم التشكيك في صحة أسماء وردت بالبيان، فإنه وجد صدى بين الداعين إلى فتح الاقتصاد، ورفع كل القيود، والمراهنة على استراتيجية مناعة القطيع. لكن في بريطانيا رد وزير الصحة مات هانكوك أمام البرلمان على هذه الدعوات بقوله «إن العديد من الأمراض المعدية لا تصل أبدا إلى مناعة القطيع، مثل الحصبة والملاريا والإيدز والإنفلونزا، ومع تزايد الأدلة على الإصابة مرة أخرى، لا ينبغي أن نثق بأننا سنصل إلى مناعة القطيع لكوفيد - 19، حتى لو أصيب الجميع به». وأضاف: «مناعة القطيع هدف معيب من دون لقاح، حتى لو تمكنا من الوصول إليه، وهو ما لا نستطيعه. وبالتالي من غير المحتمل، حتى مع وجود نسبة عالية من الأشخاص المصابين بالعدوى، أنه ستكون هناك حماية جيدة عبر مناعة القطيع».
الرهان إذن يبقى على اللقاح والآمال تتعزز مع بلوغ عدد من التجارب الجارية مراحل متقدمة. فحتى لو لم يمكن القضاء تماما على كوفيد - 19، وهو المرجح، فإنَّ الناس سوف يستطيعون التعايش معه، من دون الرعب السابق الذي شلَّ العالم.