ليونيل لورانت
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

عقدة «بريكست» تطلُّ برأس آخر

يستطلع الدبلوماسيون الأوروبيون أفق الأجواء السياسية من حولهم بكل عناية وحذر تحسباً لظهور زعيم سياسي صلب المراس، وعنيد الطبع، ولا يحظى بشعبية كبيرة، ذلك الذي يحاول العصف بمحادثات التجارة ذات الصلة بمغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي، تماماً كما يبدو الاتفاق المبدئي المحتمل في المستقبل المنظور. ولا نعني بتلك الشخصية السيد بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بحال، وإنما نتحدَّث عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وفقاً لآراء زملائي الصحافيين في شبكة «بلومبرغ» الإخبارية، فإنَّ الرئيس الفرنسي الشاب - الذي لا يتجاوز الـ42 عاماً، يتمسك بموقفه الصلب المتخذ إزاء قضية مثيرة للجدل تتعلق بحقوق الصيد البحري لما بعد خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يثير قلق شركاء الاتحاد الأوروبي الحريصين على تحديد أطر تلك الامتيازات، لا سيما مع نفاد الوقت لتحقيق انفراجة واضحة في القضية محل النقاش.
ترغب الحكومة الفرنسية في الحفاظ على حالة الوضع الراهن بالنسبة إلى أساطيل الصيد البحرية الخاصة بها، التي يعتمد بعض سفنها على ما يقرب من 75 في المائة من المياه البريطانية في عمليات الصيد. ومن جانب المملكة المتحدة - التي تستشعر الميزة التي تحظى بها - تحاول طرح حقوق الصيد المُعاد التفاوض بشأنها، وذات الفترة الزمنية المحدودة، بدلاً من ذلك. في الوقت الذي تصر فيه الحكومة الفرنسية على عدم قبول المقترح البريطاني، وتقول إن فشل تلك المحادثات عند هذه المرحلة - رغم أنها من النتائج غير المرغوب في التوصل إليها - سيكون من الأفضل كثيراً من تقديم امتيازات غير معقولة من الجانب البريطاني.
إن كان التوصل إلى اتفاق تجاري يعد من المسائل المنطقية الاقتصادية المجردة، لكان أفضل استخدام للصحف الفرنسية والبريطانية ذات الصلة بتناول هذه القضية هو تغليف مشتريات الأسماك من مختلف الأسواق منذ فترة طويلة. ولكن قيمة الأسماك التي يجري صيدها لأجل الاتحاد الأوروبي من المياه البريطانية - عند مبلغ يُقدر بنحو 650 مليون يورو أو 768 مليون دولار أميركي - مجرد قطرة في محيط هائل من تريليونات اليوروهات في مجريات التجارة الثنائية على أساس سنوي. وبالنسبة لاعتماد الاتحاد الأوروبي الكبير على مصائد بحر الشمال، فإن المملكة المتحدة بدورها تعتمد على السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي على اعتبارها الوجهة الرئيسية لمبيعات بنسبة تبلغ 75 في المائة من صادرات الأسماك البريطانية. وعليه، فإن فوائد اتفاق المقايضة بشأن حصص صيد الأسماك في مقابل حق الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة - من زاوية الخدمات المالية على سبيل المثال - تبدو كأنها الصفقة التي لا تحتاج إلى مزيد من التفكير للدرجة التي تستلزم وجود صفحة خاصة لمناقشتها على موقع موسوعة المعلومات الحرة العالمية (ويكيبيديا).
بيد أن الأمر يتعلق بما هو أكثر من سعر صفقات الأسماك على أي حال. إذ إن هناك حالة من تشابكات العاطفة مع السياسة في تلك القضية. نظراً لأن احتمالات استعادة السيطرة على المنطقة المائية البالغ طولها 200 ميل بحري تصب في صالح أنصار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الذين يرغبون في تصفية عدد من الحسابات المعلقة ذات الصلة بالبحار المفتوحة، من موقف التنافس مع الأساطيل البحرية المناوئة وحتى تدهور أحوال المدن الساحلية البريطانية، المعنى الذي يتسق تماماً مع القراءة البريطانية الضيقة للسيادة على اعتبارها المقدرة على التراجع عن القيود المفروضة على حرية التصرف المنفردة بصرف النظر عن التكاليف المتكبدة، تماماً كما شاهدنا في مشروع القانون الذي يتعارض بشكل صارخ مع شروط اتفاق خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي في العام الفائت.
أما بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي، فإن التحديات كبيرة هي الأخرى. إذ إن التخلي عن السيطرة في المناطق التي يمكن لأساطيل الصيد الفرنسية الإبحار والعمل فيها يعني إجبارها على الانطلاق إلى الصيد في المياه المزدحمة بأساطيل الصيد الأخرى وغير المربحة، جنباً إلى جنب مع القوارب المقبلة من هولندا، وبلجيكا، وبلدان أخرى. ومن الناحية السياسية المجردة بالنسبة إلى فرنسا، فإن الأمر قد يعني ابتلاع الهزيمة التجارية الرمزية لمجتمعات العمالة الفرنسية المتضررة للغاية في ظل أجواء وباء كورونا المستجد الراهنة، لا سيما مع بقاء احتجاجات أصحاب السترات الصفراء حية وعالقة في أذهان مختلف أطياف الشعب الفرنسي. ومن شأن ذلك أن يثير قدراً أكبر من السخرية من الاعتبارات الخاصة بالسيادة الفرنسية: من خلال استعراض مزيد من القوة عبر دهاليز الاتحاد الأوروبي الأقل ليبرالية والأكثر تشدداً في توجهاته، لا سيما في غياب المملكة المتحدة.
وعليه، كلما زاد عدد الحلفاء الأوروبيين - من شاكلة ألمانيا - الذين يحضون فرنسا على تقديم بعض التنازلات من أجل الوصول إلى اتفاق، اندفع الرئيس الفرنسي إلى اتخاذ موقف أكثر تعطيلاً للمحادثات، وإن كان هذا موقفاً منفرداً، ذلك الذي يشبه إلى درجة كبيرة الموقف الذي أعلن فيه دفاعه عن الحدود البحرية في مواجهة المغامرات البحرية الرعناء من جانب الحكومة التركية في البحر الأبيض المتوسط، أو وصفه اللاذع لحلف شمال الأطلسي بأنه يعاني من «سكتة دماغية». ينظر إيمانويل ماكرون إلى الخروج البريطاني على اعتباره فرصة ذهبية سانحة لفرض سيطرته على مجريات السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. إذ تعتبر الحكومة الفرنسية نفسها على الدوام في موقف المحفز الدائم للحكومة الألمانية على التحرك والعمل، وذلك وفقاً إلى وجهة نظر السيد توماس غومار من مؤسسة «إيفري» البحثية الفرنسية.
ما من شك في أن الحكومة البريطانية ترغب تماماً في استغلال حالة الانقسام الراهنة بين الموقفين الفرنسي والألماني. وليست هذه المرة هي السابقة الأولى التي تحاول فيها أنجيلا ميركل السيطرة على اندفاعات إيمانويل ماكرون. بيد أن البرلمان الأوروبي، الذي يلزم الحصول على موافقته أولاً للتصديق على أي اتفاق بين الدول الأعضاء، يراقب مجريات الأوضاع عن كثب. ولقد أبلغني رئيس لجنة مصائد الأسماك في البرلمان الأوروبي - السيد بيير كارلسكايند - أنه يعارض تماماً تقديم مزيد من التنازلات في مواجهة تهديدات المملكة المتحدة بفرض السيادة البحرية.
وصرح وزير الخارجية الآيرلندي سيمون كوفيني خلال الأسبوع الماضي بأن الجانب البريطاني هو الذين ينبغي عليه تقديم التنازلات في خاتمة المطاف، لا سيما مع كثير من اهتزاز الثقة التي يواجهونها بشأن سياسات المساعدات الحكومية وانتهاكات القانون البريطاني. حتى إن كان إيمانويل ماكرون يقف منفرداً في حديثه عن خطاب السلطة والسيادة، فإن أعضاء الكتلة الأوروبية البالغ عددهم 27 دولة يلتزمون حتى الآن موقفاً موحداً إزاء القضية، وذلك وفقاً إلى رؤية البروفسور كريستيان ليكسن من معهد «بو» الفرنسي للعلوم.
ليس هناك من أحد - بما في ذلك الرئيس الفرنسي نفسه - يدفع راهناً في اتجاه خروج المملكة المتحدة من دون صفقات واضحة مع الاتحاد الأوروبي. لكن، ومرة أخرى، لا يجري تناول مثل هذه النتائج في معرض النقاشات السياسية الدائرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بنفس مقدار الخشية التي كانت شائعة في عام 2019 من قبل. وإن كان الأمر عُرضة لتكرار الحدوث على الإطلاق، فإن اللوم سوف يلحق بمزيج «بريكست» العجيب للغاية من السيادة السياسية والمأكولات البحرية في الأجواء الأوروبية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»