يُروى عن حكيم هندي أن الوارث الشرعي لإحدى الولايات الأمير «سيكلموني» - وهذا هو اسمه - كان قد حُظر عليه من قبل الأطباء أن يرى مريضا أو شيخا طاعنا في السن أو شخصا ميتا.. شاهد وهو يسير مع خدمه خارج قصره في الولاية شيخا مرعب المنظر، محدودب الظهر، لا أسنان في فمه، وفي حالة يُرثى لها.
تعجب الأمير من هذا الشيخ الكبير الذي لم يرَ مثله من قبل في حياته، فسأل سائق العربة عن هذا الرجل المسكين وعن حالته المحزنة. وعندما عرف أن هذه الحالة سوف يصير إليها كل البشر عندما يكبرون في السن، وأنه نفسه، وهو الأمير الشاب وقتها، سوف يصبح في مثل حالته يوما ما، عندما عرف الأمير ذلك أمر سائق العربة بالرجوع فورا إلى قصره ليتسع له الوقت في التفكير في كل هذا.
دخل الأمير مخدعه وأغلق الباب وراح يفكر في تلك الحالة البائسة وهو جالس لحاله بعيدا عن أي أحد. ويبدو أنه بعد تفكير طويل اهتدى إلى بعض الأفكار التي وجد فيها تعزية لحالته الحزينة.
وبسبب ذلك خرج مرة ثانية بعربته خارج القصر سعيدا، وطلب من سائقه القيام بنزهة قصيرة في الولاية، غير أن الأمير لم يبتعد كثيرا حتى رأى مريضا يئن متوجعا وقد فارقت الصحة جسده العليل، وزوت نضارة وجهه، فأظلمت عيناه، وتغير لون بشرته. وعندما رأى الأمير هذا المنظر الكئيب، وهو الذي لم يعرف شيئا عن المرض من قبل، سأل سائق العربة عن حقيقة هذا المشهد، فأخبره أن المرض ضعف يطرأ على جميع أجساد البشر، وأنه، الأمير نفسه السعيد والمسرور بالحياة، قد يمرض في أي وقت ويصبح في مثل حالة هذا المريض الواقف أمامه.
حزن الأمير أيضا بعد سماع هذا، وفارقته رغبته في النزهة، وطلب من السائق أن يرجع حالا إلى قصره مرة أخرى!
وفعل الرجل ما قام به في المرة الأولى، حيث أغلق على نفسه الباب وراح يفكر في شيء يعزيه عما شاهده وتألم منه. وبعد مضي بعض الوقت ركب عربته وأمر سائقه بالتنزه مرة أخرى.
لكن هذه المرة الثالثة لم تخلُ من تكدير أيضا، فقد رأى شيئا جديدا لم يره طبعا من قبل، فقد شاهد رجالا يحملون محملا ويسيرون به في الشارع إلى جهة غير معروفة، فسأل السائق قائلا:
- ما هذا؟
رد حزينا: إنه رجل ميت!
قال الأمير: وماذا تعني بقولك: «رجل ميت»؟ فأخبره أن الرجل الميت مثل الذي يحمله الناس على المحمل أمامه.
هنا نزل الأمير من العربة، وأمر الحاملين أن يقفوا على بعد أمتار من المحمل، وقام بنزع الغطاء، ونظر في الجثة التي فيه.
ثم سأل قائلا: وما الذي سيصير إليه هذا الرجل؟
فأخبروه أن الجثة ستُدفن في الأرض.
فقال لهم: ولماذا؟
قالوا: لأن الرجل لن يعيش فيما بعد، وسيخرج الدود والنتن منه إذا لم يدفنوه.
وزاد فضول الأمير فسألهم: وهل هذه قسمة عامة لجميع الناس؟ وهل أصير أنا إلى مثل هذه الحالة؟ هل أُدفن تحت الأرض ويصيبني النتن وأصبح مطعما للدود؟
فردوا بصوت واحد: نعم، أيها الأمير.
عندها صرخ بالسائق وقال له وهو في قمة الغضب: ارجع بي إذن إلى قصري فلن أخرج منه بعد اليوم، ولن أتنزه طول حياتي!
النزهة قد تكون قاتلة أحيانا وبها الكثير من البؤس وما لا يسر الإنسان، ولكن هل العزلة وإغلاق الباب على النفس هو الحل؟
هناك كثير من البشر اليوم يتصورون أنهم إذا فعلوا ذلك فسوف ينجون من الحياة التي لا يرغبون فيها، وأنهم سوف «ينفذون بجلدهم» مما لا تشتهي نفوسهم وأرواحهم!
غير أن الدنيا، وهذه أحسبها من فضائلها وليس من سيئاتها، بها ما نرغب وما لا نريد. بها ما يفرح وما يجعلنا نذرف الدموع أنهارا. والمرضى والموتى والبائسون لا يُعدون ولا يُحصون، ولا يمكننا أن ننفيهم من حياتنا، ولا حتى أن نبعدهم من شوارعنا. فما دامت للدنيا عينان، فهي لمشاهدة كل ما هو موجود وكل ما يجري من حولنا، سواء كان المشهد جميلا وخلابا وساحرا أو بائسا ومقرفا.
أن تعيش في هذه الدنيا فهذا يعني أنك اخترت أو اختار لك رب العالمين ما تراه وأعطاك مواعيد للشقاء وأخرى للسعادة.
هناك رجل ميت، وهناك امرأة تفيض حيوية، وهناك طفل سعيد، وعجوز تجر خيبات الدنيا وراءها. ولا خيار في النهاية سوى أن تعيش!
7:52 دقيقه
TT
رجل مـيـت
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة