حمّاد بن حامد السالمي
كاتب سعودي
TT

مَن مِنّا بلا قضيّة ؟!

منذ ولادتنا؛ ونحن نعيش ونتنفس، ونحب ونكره، ونعادي ونحابي، على وقع قضية واحدة لا غير هي القضية الفلسطينية. قضية العرب والمسلمين؛ الذين استلب المعتدون أرضهم ومقدساتهم وقدسهم الشريف ثالث الحرمين الشريفين، وتم تشريد سكان هذه الأرض إلى خارج حدود فلسطين، حتى أصبحوا لاجئين في ديار العرب وغير العرب. بدأ نضالنا من أجل «القضية» ونحن تلاميذ في التعليم العام، جنباً إلى جنب مع القادة والجيوش التي خاضت الحروب تلو الحروب، وكانت النشوة تغمرنا ونحن نؤثر على أنفسنا أهلنا في فلسطين بريال الفسحة اليومية تحت شعار: «ادفع ريالاً تنقذ فلسطينياً»، لنبقى بلا فطور فسحة في المدرسة، لنعود ظهراً نستمع إلى إذاعاتنا العربية المواكبة للمعركة؛ لنعرف ما فعلت ريالاتنا في الحرب على إسرائيل.
مع مرور الأيام؛ اكتشفنا أن ما ادّخرناه ودفعناه من ريالات وذهب وجواهر وعواطف جياشة من أجل «القضية»؛ لم يتجاوز جيوب كثير من رافعي شعارات النضال والتحرير، المنادين برمي إسرائيل في البحر، وظل الشعب الفلسطيني أسيراً لشعارات براقة مضللة، تتنقل بالقضية من هزيمة إلى أخرى، ومن جبهة إلى جبهة، ومن فصيل إلى فصيل، ومن حزب إلى حزب، حتى ظهر للعيان أن المتصدرين للقضية الفلسطينية من أبنائها منذ سبعين سنة إلى اليوم؛ لا يريدون لهذه القضية أن تُحل، لا حرباً ولا سلماً، لأنه لو حُلَّت فسوف تموت، وإذا ماتت فسوف يموت لموتها خلق كثير من المناضلين باسم «القضية» من الشعب الفلسطيني نفسه، ومن شعوب عربية وأعجمية، ربطت مصيرها بمصير القضية...
تحولت القضية الفلسطينية منذ البدء إلى تجارة رابحة في ميادين السياسة والمال والتآمر على القريب قبل البعيد، ولهذا؛ لم يكن غريباً أن تقوم باسمها ومن أجل سواد عيونها حروب مدمرة، كان وما زال كثير من روادها يجهلون الطريق إلى عاصمتها القدس، فصدام حسين ظن أنَّ الطريق للقدس يمر بالكويت، والخميني وكل الملالي في إيران ظنوا ويظنون أن الطريق لتحرير القدس يمر عبر بغداد ثم دمشق وبيروت وصنعاء، ثم عبر مكة المكرمة والمدينة المنورة...! هكذا كبرت تجارة «القضية» وتضخمت وتوالدت، حتى أصبح الطريق إليها من كل الجهات مبهماً وملغماً، فلا العرب يعرفونه، ولا العجم يريدونه، وغُمّ حتى كثير من أهلها، فقد شغلهم الاتجار بـ«القضية»، فضاعوا في تيه جديد اسمه تيه «القضية الفلسطينية».
هل رأيتم كيف تحول تجذر القضية الفلسطينية في نفوسنا نحن هذا الجيل العربي؛ من خليجنا الهادر إلى محيطنا الهادئ، على مدى سبعين سنة...؟ تحول إلى تشذر ليس له نظير في حياة الأمم كافة. ها نحن نكتشف بعد حين من الدهر أن قضيتنا مثل نسائنا... ولّادة... ولّادة... أمسينا وأصبحنا؛ فإذا لكل عربي مشرقي أو مغربي؛ قضية هو مولّيها. وليت كل قضايانا مع غيرنا؛ لكنا في حرز من لدغ الأفاعي ولسع العقارب ولكن... آه من لكن، التي تأبى إلا أن تلازمنا في تاريخنا قديمه وجديده. لم تعد القضية الأم هي كل همنا، فكلنا في شرقنا وغربنا همّ. لأهل المغارب من العرب قضاياهم مع المؤدلجين والعازفين على وتر التعريب والقومية الأمازيغية، ومع فروع حزب الإخوان ومشعلي نيران الثورات. ولنا في المشارق؛ قضايانا مع المشروعين الفارسي والتركي. العداء التركي والفارسي ضد دول الخليج والهلال الخصيب؛ ليس مذهبياً فقط، ولكنه قومي تاريخي مذهبي، مدعوم عربياً بباعة عرب، لا يهمهم دار ولا عار، ولا أصل ولا فصل، ولكن هم ومصالحهم الآنية وكفى.
لكلٍّ منّا في «بلاد العُرب أوطاني»؛ قضية هي نتاج وبنت «القضية» الأم التي يحرص الكل على بقائها حية، لأنَّها تجارتهم التي لا تبور. الفلسطينيون كانوا أول المطبّعين في مدريد وما تلاها من اتفاقيات، ومع ذلك يزمجرون ويرعدون إذا طبّعت دولة عربية غيرهم، كأنهم أوصياء على غيرهم من العرب... السادات رحمه الله، كان أذكى الجميع، فطبّع واستعاد أرضه المحتلة سلماً. الأردن طبّع، وتركيا سبقتها؛ وهي التي قدمت الأرض الفلسطينية على طبق من ذهب للصهاينة قبيل وعد بلفور. كل ذلك؛ وها نحن اليوم نُرمى بحجارة من نار. إن واحدة من أخطر قضايانا اليوم؛ هي قضيتنا مع أهل «القضية»، الذين يضعون أيديهم في أيدي الفرس والترك، ويشتموننا من منابر إخوانية خيانية ليل نهار. ألم أقل لكم؛ ليس مِنّا من ليست له قضية.
لنتذكر جيداً شاعر فلسطين الكبير (إبراهيم طوقان) رحمه الله، الذي لم يكذب أهله يوم أن قال في عام 1929 قصيدته الشهيرة، الذي مطلعها يقول:
باعوا البِلادَ إلى أعدائِهمْ طمَعاً
بالمالِ لكِنَّما أوطانَهم باعوا

* كاتب سعودي