أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

أوروبا أعلنت للتو استقلالها عن الصين

عايش الدبلوماسيون الصينيون عاماً مروعاً بالفعل داخل أوروبا، لكن جاء هذا الأسبوع ليزيد الأوضاع سوءا. وبهذا المعدل، ربما يتمكن الرئيس الصيني شي جينبينغ من تحقيق إنجاز مشؤوم، ألا وهو إثارة سخط الأوروبيين على نحو أسرع وأكبر عن حتى ما يفعله الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
بوجه عام، يتمثل الهدف الأكبر نصب عين جينبينغ في المنطقة في الحيلولة دون حشد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة صفوفهما في مواجهة الصين. وكان يأمل في تحقيق انفراجة خلال قمة مع قيادات الاتحاد الأوروبي تقرر عقدها في 14 سبتمبر (أيلول). في البداية، كان من المفترض عقد القمة في مدينة لايبزيغ الألمانية. إلا أنه تقرر لاحقاً بدلاً عن ذلك عقد القمة بتقنية «فيديو كونفرنس» بسبب ظروف وباء فيروس «كورونا».
إلا أن المخاطر القائمة على هذا الصعيد ضخمة. ولذلك، أوفد الرئيس الصيني الأسبوع الماضي وزير خارجيته وانغ يي إلى خمس دول أوروبية لإجراء بعض المحادثات التمهيدية لطيفة النبرة. وبالفعل، جرت أحاديث بين الجانبين بالفعل، لكن المشكلة أنها لم تكن لطيفة.
كان وانغ يتجول عبر الدول الأوروبية على أمل الاستماع إلى نبرات ألطف اعتاد عليها من الأوروبيين، الذين لا يزالون أشد حرصاً عن الأميركيين على الإبقاء على التعاون والروابط التجارية مع الصين. بدلاً عن ذلك، فوجئ وزير الخارجية الصيني بحجم المقاومة التي استشفها خلف المجاملات الرسمية اللطيفة.
ومع هذا، فإن هذه اللقاءات لا تبدو شيئا يذكر مقارنة بما عاينه المسؤول الصيني لدى توقفه في برلين. في حديث له أمام حشد من المراسلين الألمان، شن وانغ هجوماً شديداً ضد رئيس مجلس الشيوخ بجمهورية التشيك، ميلوس فيسترسيل، الذي ترأس وفداً في زيارة لتايوان. وهدد وزير الخارجية الصيني بأن فيسترسيل «سيدفع ثمناً فادحاً»، مؤكداً أن «الخيانة» التي سقط فيها المسؤول التشيكي جعلت منه «عدواً لـ1.4 مليار صيني».
واستثار هذا رد فعل من هايكو ماس، وزير الخارجية الألماني. وأثناء وقوفه إلى جوار ضيفه الصيني خلال المؤتمر الصحافي المشترك بينهما، حرص ماس على تذكير ضيفه بأنه «نحن كأوروبيين نتصرف من خلال تعاون وثيق بيننا»، وطالب بإبداء الاحترام، وقال إن «التهديدات لا تصح هنا». وأضاف أن الاتحاد الأوروبي لن يتحول إلى «لعبة» في خضم التنافس الصيني ـ الأميركي، وسرعان ما تحرك نظراؤه من فرنسا وسلوفاكيا ودول أوروبية أخرى لدعمه.
وفي عالم المصطلحات الدبلوماسية، فإن تلك اللحظة شكلت ليس فقط بداية ظهور نبرة أوروبية جديدة، وإنما كذلك اتخاذ أوروبا لمنحى جديد تماماً. على مدار سنوات، بذلت الكثير من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، قصارى جهدها للتغاضي وتحويل أنظارها باتجاه مختلف لدواع تجارية بينما انتهكت الصين حقوق الإنسان وعمدت إلى استغلال أسواق أوروبا المفتوحة، ومارست التنمر بحق بعض جيرانها في آسيا. الآن، يبدو أن هذه الأيام قد ولت.
ببساطة، لقد أصبحت قائمة القضايا المثيرة للسخط ضد الصين طويلة للغاية. وتبدأ بالحملة القاسية ضد هونغ كونغ وقمع الأويغور في إقليم سنغان. من ناحيتها، تصر الصين على أن القضيتين، مثلما الحال مع المسألة التايوانية، شؤون داخلية وليس لأحد في العالم شأن بها. وبعد ذلك، هناك استعراض القوة من جانب الصين في بحر الصين الجنوبي، وبالطبع توجهها الجشع إزاء التعاملات التجارية.
ومن أجل تخفيف حدة المشكلة الأخيرة، كان الغرض الأصلي من القمة المقررة في 14 سبتمبر صياغة شكل أفضل لعلاقات الاستثمار المتبادل بين الاتحاد الأوروبي والصين. إلا أنه بعد سنوات من التفاوض، فاض الكيل بالأوروبيين إزاء التعنت الصيني تجاه السبل الكثيرة التي تتسلل من خلالها الشركات الصينية المملوكة للدولة أو الموجهة من جانب الدولة إلى داخل السوق الأوروبية المشتركة وتشوه المنافسة فيها أو تتحايل للاستيلاء على التكنولوجيات الجديدة. وبدلاً عن تيسير الاستثمارات الصينية في أوروبا، شرع الاتحاد الأوروبي حالياً في فرض قيود على هذه الاستثمارات.
ومع ذلك، تبقى هناك قيود إلى أي مدى باستطاعة أوروبا، مقارنة بالولايات المتحدة، الوقوف بوجه الصين. في هذا الصدد، أعرب نواه باركين، مراقب الشؤون الأميركية ـ الصينية المقيم في برلين، ويعمل حالياً لدى «صندوق مارشال الألماني»، عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة تسعى «لفك ارتباط» اقتصادها عن الاقتصاد الصيني، في الوقت الذي يرغب الاتحاد الأوروبي فحسب إلى «تنويع» اقتصاده.
ويفسر ذلك السبب وراء استمرار التزام بعض الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، الصمت إزاء ما إذا كانت ستحظر مشاركة شركة «هواوي تكنولوجيز كو.»، شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة، في توريد معدات شبكات الجيل الخامس القادمة.
ويفسر هذا الوضع كذلك السبب وراء محاولة فرنسا، بدعم من ألمانيا ودول أخرى، بجد أكبر إبقاء منطقة المحيط الهادي ـ الهندي ـ التي تضم بصورة أساسية جميع الدول المحيطة بالصين ـ حرة ومزدهرة.
ويدرك الأوروبيون أكثر عن الأميركيين أنه من غير الكافي فرض قيود أينما أمكن على القوة الصينية، وإنما يجب عليهم السعي للتعاون مع الصين أينما سنحت الفرصة لذلك لتسوية مشكلات عالمية، من التغييرات المناخية حتى الاستعداد للوباء القادم.
وقبل أي شيء، يأمل الأوروبيون في ألا تنزلق المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، مثلما كان الحال بين ألمانيا الإمبريالية وبريطانيا قبل عام 1914 إلى حرب كبرى يجد الاتحاد الأوروبي نفسه فيها مضطراً للانحياز في مواجهة الآخر.
فيما يخص أوروبا، يتمثل الهدف الأكبر في الإبقاء على بعض من الاستقلالية في عالم تهيمن عليه على نحو متزايد قوتان غير جديرتين بالثقة. وإذا ما أصبح جو بايدن الرئيس القادم للولايات المتحدة، فسيحاول الاتحاد الأوروبي التعاون مع الولايات المتحدة التي تشكل شريكه التقليدي في تحقيق ذلك. أما إذا بقى ترمب في السلطة، فإن أوروبا ستزيد وتيرة جهودها ـ التي يتعين علينا الإقرار بأنها متواضعة ـ للحفاظ على مسافة متساوية بينها وبين الولايات المتحدة والصين. في الحالتين، من الأفضل على الدبلوماسيين الصينيين تغيير نبرتهم خلال الزيارات المستقبلية.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»