جون أوثرز
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

الماضي في عيون الحاضر

انتقلت المملكة المتحدة من حالة الجدل الدائر بشأن مغادرة عضوية الاتحاد الأوروبي إلى حالة جديدة من الجدل السياسي تتعلق بالأغاني التي ينبغي الاستماع إليها في الليلة الأخيرة من حفلات التخرج في المدارس والجامعات، فيما يعتبر الفرصة السنوية الوحيدة للتلويح بشعارات النقابات والتحلي بالروح الوطنية البريطانية. وباتت أغنيتان من العصر الفيكتوري مثاراً للجدل إزاء المشكلات القائمة بعض الشيء في هذه الأيام.
تقول إحدى هاتين الأغنيتين، وهي بعنوان «رول بريتانيا»، إن بريطانيا تتحكم في أمواج العالم، وإن الشعب البريطاني لن يكون عبداً أبداً لأمة من الأمم. وإذا نظرنا إلى تلك الكلمات من وجهة النظر الأميركية، فإنها تثير في طياتها قضية أن كثيراً من الأشخاص الذين حملتهم السفن البريطانية فوق الأمواج خلال العصر الإمبراطوري كانوا في واقع الأمر عبيداً في مجملهم. ثم تأتي أغنية بعنوان «لاند أوف هوب أند غلوري» لتوجه حديثها إلى الإمبراطورية البريطانية ذاتها، إذ تقول كلماتها: «على نطاق أوسع، ثم أوسع، سوف ترسمين حدودك مترامية الأطراف، والقدير الذي منحك القوة، سوف يجعلك قوية إلى الأبد».
يمكن لكل مواطن بريطاني أن يستشعر معاني الفخر والاعتزاز من كلمات تلك الأغاني، في حين لا تفارقه مشاعر الحرج الواضحة من مضمونها الاستعلائي البارز. «وإنني أدرك تلك المعاني عن ظهر قلب، إذ كنت أتلو تلك الأغاني في حفلات المدارس منذ زمن. وكنت أستمتع بها كثيراً في تلك الأيام، لكنني كنت أشعر بغضاضة تنتاب قلبي من تلك الكلمات بين حين وآخر حتى أيامنا الراهنة». وبعد إعلان هيئة الإذاعة البريطانية، التي كانت تشغل تلك الأغاني في المناسبات العامة، أنها تعتزم إلغاء كلمات «رول بريتانيا»، إلا أن بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني قد دخل على الخط، وأبلغ هيئة الإذاعة البريطانية أنه لا يوجد ما يدعو إلى الخجل أو يثير الحرج، ووجّه تعليماته إلى المدارس بأنه من المقبول سياسياً التغني بالأناشيد التي تمجد الإمبراطورية البريطانية المترامية الأطراف، التي خلقها الربّ القدير قوية ومنحها حق التحكم في أمواج البحار!
وإنني أذكر أن هذه الزوبعة في الفنجان الإنجليزي بسبب الأسواق تعيد تسليط الأضواء القاسية على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وربما مصير المملكة المتحدة بأسره في فترة ما بعد العصر الإمبراطوري. لقد جاء تداول مؤشر «إف تي إس إي 100» سيئاً للغاية مؤخراً، وعاد إلى ما دون مستواه الطبيعي المسجل بتاريخ 24 يونيو (حزيران) من عام 2014، أي تاريخ إجراء الاستفتاء البريطاني على الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي. وكما يظهر من البيانات، تواصل الأسهم البريطانية التراجع السريع، وبأكثر من أي وقت مضى، متخذة في ذلك مرتبة خلف بقية دول العالم. وتستمر تلك الفجوة في الاتساع يوماً تلو آخر.
ويعد أداء الأسهم البريطانية سيئاً إلى درجة كبيرة، ولا سيما إذا كان أداء الجنيه الإسترليني جيداً للغاية. وتهيمن الشركات المتعددة الجنسيات على مؤشر «إف تي إس إي 100» في غالب الأمر، والتي تبدو أرباحها أفضل بصورة كبيرة عندما يتراجع أداء الجنيه الإسترليني. غير أن الجولة الأخيرة من ضعف أداء الدولار الأميركي قد وصلت بالجنيه الإسترليني إلى أقوى مستويات الأداء في مقابل العملة الأميركية منذ أوائل عام 2018، قبل أشهر قليلة من محاولة الفوز بموافقة البرلمان البريطاني على خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي، والتي تدهورت مجرياتها حتى صارت أزمة تمثلت في وصول الجنيه الإسترليني إلى أعلى مستوياته، مقارنة بالدولار الأميركي منذ أوائل عام 2018.
وربما لا يكون الجنيه الإسترليني القوي مفيداً بدرجة كبيرة، مع محاولة المملكة المتحدة صياغة الشكل الذي سوف يتخذه المستقبل البريطاني خارج عضوية الاتحاد الأوروبي، ولا سيما في العالم الذي تتصارع فيه أكبر قوتين اقتصاديتين على مستوى العالم؛ الولايات المتحدة في مواجهة الصين. وهناك مخاطر تتمثل في أن تتحول المملكة المتحدة إلى واحدة من أكبر الجهات الخاسرة على مستوى العالم بسبب ضعف أداء الدولار الأميركي في الأسواق العالمية.
ومع ذلك، تبدو خطة الاقتصاد البريطاني في الوقت الراهن مشابهة للغاية لتلك الخطة التي سبق أن استخدمها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون ومستشاره جورج أوزبورن خلال الأعوام التي سبقت إجراء استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. تلك الخطة خضعت لسوء تقدير بصورة كارثية، وأدت إلى القضاء على حياتهما السياسية تماماً. وكانت تلك السياسة تدور حول تحفيز سوق الإسكان، الذي كان من أكبر محركات الاقتصاد البريطاني، مع المحافظة على العقيدة المالية الصارمة كما هي.
ولقد صدرت أحدث البيانات ذات الصلة بالرهن العقاري في المملكة المتحدة، وهي تعكس في غالب الأمر أن الطلب على الإسكان قد استكمل حالة التعافي الملحوظة، مع عودة موافقات الرهن العقاري البريطانية إلى مستواها المسجل مسبقاً قبل عام كامل.
ويوضح الخبير الاقتصادي كريس والتينغ من مؤسسة «لونغ فيو إيكونوميكس» في لندن كيفية تحقيق ذلك التعافي من خلال الرسوم البيانية التي تُظهر أن جانباً كبيراً من النجاح في ذلك يرجع إلى تدفقات الأموال السهلة في سوق الإسكان البريطاني. وذلك مع الأخذ في الاعتبار الجهود الكبيرة التي بذلها «بنك أوف إنغلاند» في شراء الأصول، فإن معدلات الأسهم البريطانية لم تكن أقل من مستوياتها المسجلة في أي وقت مضى.
لعدد من الأسباب، لا يزال الشعب البريطاني يميل إلى تفضيل الرهون العقارية ذات الأسعار العائمة. «وهناك أطروحة نفسية مثيرة للاهتمام ذات صلة بمدى تصور الشعب البريطاني لمخاطر الاعتماد على الأسعار الثابتة، مع فقدان احتمال أن ينخفض السعر، في حين يميل السواد الأعظم منهم إلى اعتبار السعر المنخفض أقل مخاطرة». ويعتبر متوسط السعر العائم، غير الثابت، للرهون العقارية في المملكة المتحدة عند أدنى مستوياته المسجلة على الإطلاق.
ولهذا بدوره آثاره التي يمكن التنبؤ بها على سلوكيات المستهلكين؛ إذ اعتاد الشعب البريطاني على التعامل مع منازلهم، على اعتبارها صورة من صور ماكينات الصراف الآلي، وبالتالي فإن تقديرات أسعار المنازل تؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الطلب على الائتمان الاستهلاكي في البلاد. ويبدو أن هذا ما يجري بالفعل، وفقاً لتقديرات الخبير الاقتصادي كريس والتينغ.
من أجل ذلك، يبدو أن الأموال السهلة تتدفق بصورة فعالة من خلال النظام المالي في المملكة المتحدة. ولقد ساعد ذلك في أن تكون الرياح مواتية بالنسبة للصناعات البريطانية، التي لا تنعكس أرباحها أو ثرواتها في مؤشر «إف تي إس إي 100» نظراً لأن الشركات المتعددة الجنسيات تهيمن عليه. وتفيد التقارير بأن مؤشر مديري المشتريات للصناعات التحويلية في المملكة المتحدة يواصل التحسن، ويعاود الوصول إلى المستويات التي كانت قد شوهدت في المرة الأخيرة مع أوائل العام الماضي. وليس هناك من ضرر على الإطلاق أن يكون أداء ذلك المؤشر متقدماً على أداء منطقة اليورو منذ البدء في مجريات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
وبدأت المشكلات في الظهور في الآونة الأخيرة. فلقد كانت الحكومة البريطانية سخية للغاية حتى الآن، من خلال توفير الإعانات المالية المباشرة، من أجل تناول الوجبات في المطاعم، فضلاً عن اعتمادات الدخل السخية للغاية هي الأخرى بالنسبة لمن فقدوا وظائفهم جراء كارثة وباء «كورونا المستجد». ولا بد من سداد ثمن ذلك، ويدخل ريشي سوناك، وزير الخزانة العامة في المملكة المتحدة، في حالة من الجدل العميق بشأن ما إذا كان ينبغي رفع الضرائب في البلاد من عدمه. وليس من المتوقع أن تحظى زيادات الضرائب بأي شعبية في البلاد، ومن المرجح أن تكون محفوفة بمخاطر إبطاء النمو الاقتصادي على نفس الطريقة التي أسفرت بها ضرائب المبيعات عن إضعاف استراتيجية «آبينوميكس» الاقتصادية في اليابان. ولسوف يكون البديل عن ذلك هو اعتماد سياسة التقشف الاقتصادي، على غرار نموذج المستشار أوزبورن السالف الذكر، والذي لم يحفل بشعبية كبيرة في المرة الأولى، وربما يكون كذلك هذه المرة بعد فترة من الكرم والسخاء الحكومي التي من المقرر أن تتوقف على نحو مفاجئ. ولكن إذا لم يتخذ ريشي سوناك إجراءاته بشأن هذا الأمر، فسوف يكون من العسير المحافظة على انخفاض الأسعار على النحو الراهن لفترة طويلة مقبلة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»