د. ياسر عبد العزيز
TT

الصحافي العربي في فخ إبداء الرأي

قبل تسع سنوات، وفيما كانت الانتفاضات العربية تندلع باطراد، وأسقف «الحرية» تعلو، وهوامشها تتمدد، في بعض بلدان المنطقة، طلب مني القائمون على مشروع إعلامي في طور التأسيس آنذاك، وقبل أن يصبح لاحقاً مؤسسة إعلامية مهمة، ترشيح بعض الصحافيين لوظائف واعدة؛ وهو الأمر الذي اجتهدت في تحقيقه، وفق ما توافر لديّ من معلومات عن الاستعداد المهني لهؤلاء الزملاء، ومدى توافق قدراتهم مع متطلبات الوظائف الشاغرة.
لكن المثير في الأمر، أن عدداً غير قليل من المرشحين الذين سعيت إلى استمزاج آرائهم بصدد الوظائف المطروحة، أظهروا اتفاقاً لافتاً على الرد بإجابة بدت شديدة الإيحاء؛ إذ طلب معظم هؤلاء، بعد ترحيبهم بالخضوع للاختبار لشغل الوظائف الشاغرة، وقتاً مناسباً لكي يتمكنوا من «تنظيف حساباتهم» على «السوشيال ميديا»، بما يتلاءم مع طبيعة مالك الوسيلة الإعلامية واعتباراته السياسية.
كان ذلك كافياً جداً لإثارة انتباهي إلى معضلة جوهرية لطالما عانت منها ممارساتنا الإعلامية، قبل أن تستفحل وتتغول في ظل الصراعات والاستقطابات الحادة التي ضربت البيئة السياسية العربية، وانعكس أثرها الحاسم على صناعة الإعلام، بموازاة ازدهار أنشطة التعبير عن الرأي عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
لاحقاً، كان بإمكاني تكثيف البحث في ذلك الصدد، وعبر عدد من المقاربات البحثية والمقالات ذات الصلة، التي اجتهدت لسبر أغوار تلك المعضلة، توصلت إلى استخلاص رئيسي مفاده كما يلي: يعبر قطاع من الصحافيين العرب عن آرائهم السياسية في التطورات الملتبسة والمثيرة للجدل في المنطقة عبر حساباتهم في «السوشيال ميديا» بانتظام، وبعض هذه الآراء يتسم بالحدة ويُعمق الاستقطاب، وبعضها الآخر ينطوي على جرائم أو مخالفات. وفي المقابل، فإن بعض ملاك وسائل الإعلام والقائمين على إدارتها وفئة من الزملاء والجمهور يحاسبون الإعلاميين على تلك الآراء، التي بات بإمكانها تحديد مستقبلهم المهني.
ثمة أربع زوايا أساسية يمكن من خلالها تحرير تلك المسألة؛ أولى تلك الزوايا تتعلق بالأسئلة المتكررة في هذا الصدد؛ مثل: ألا يحق للصحافي التعبير عن رأيه السياسي؟ أليس مواطناً وإنساناً تكفل له الدساتير والعهود الحقوقية الدولية حرية الضمير والتعبير عن الرأي؟
والإجابة عن هذا السؤال ستكون واضحة بعد مطالعة تجارب وخبرات مؤسسات إعلامية عريقة، وبعد البحث الدقيق في مدونات السلوك وأكواد الممارسة المعتبرة وعقود العمل في المؤسسات الإخبارية البارزة في العالم المتقدم: من حق المؤسسة الإعلامية التي تعمل في مجال الأخبار أن تُلزم الصحافيين فيها بعدم التورط بآراء شخصية في قضايا سياسية واجتماعية محل جدل وانقسام بين قطاعات الجمهور المستهدف، بما يحفظ لتلك المؤسسة قدرتها على مقاربة تلك القضايا بالحياد اللازم والموضوعية المطلوبة، وبما لا يحرف مواقف الجمهور، ويزعزع الثقة في خدماتها الإخبارية.
أما الزاوية الثانية في تلك المعضلة فتتعلق بمواقف بعض وسائل الإعلام العربية، التي لا تلتفت بالاهتمام الواجب إلى الاستخلاص السابق، وتكتفي فقط بمحاسبة العاملين بها والمتقدمين لنيل وظائفها على طبيعة آرائهم وليس على التزامهم قواعد الحياد إزاء القضايا المختلف عليها بين أوساط الجمهور.
وتتعلق الزاوية الثالثة في مقاربة هذه المعضلة المتجددة في حياتنا الإعلامية بموقف بعض الصحافيين، الذين يفضّلون محاسبة زملائهم على المواقف الصادرة عنهم، ومدى اتساقها مع مصالحهم ورؤاهم، وليس على مدى التزامهم المهني بضرورة الحياد تجاه القضايا الجدلية والصراعات التي تفرز استقطاباً ما داموا يقدمون الأخبار للجمهور، بما يحفظ لصناعة الأخبار مهنيتها ويصون موضوعيتها.
ونأتي إلى الزاوية الرابعة؛ وهي زاوية يبرز فيها موقف واضح لبعض قطاعات الجمهور، الذي يحاسب المؤسسة الإعلامية ذات نطاق الخدمة الإقليمية بوصفها مؤسسة وطنية يجب أن تخضع اعتبارات التوظيف بها للمحددات السائدة في بيئة العمل المحلية؛ وهو أمر خاطئ بطبيعة الحال؛ إذ يجب أن يتم التوظيف في مؤسسات الإعلام ذات الطبيعة الدولية أو الإقليمية على أساس الكفاءة والمهنية والقدرة على خدمة أهداف المنظمة.
ستظل تلك المعضلة تُطرح باستمرار، مخلِّفةً الكثير من الغبار والارتباك والخلل، ما دامت القواعد غائبة؛ وهي قواعد واضحة وتحظى بتوافق كبير في الأكاديميات وبيوت الصناعة العريقة: صحافي الأخبار يجب ألا يتورط بإبداء الرأي في القضايا الخلافية، والمؤسسة الإعلامية مطالَبة بمحاسبة منسوبيها على التزامهم الحياد في تلك القضايا، وليس على درجة التوافق والمناصرة، والتوظيف في المؤسسات الدولية والإقليمية يخضع لاعتبارات الاستعداد المهني ومقابلة متطلبات الوظيفة.