جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

نوفمبر وحمّى الانتخابات الأميركية

شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، رغم كونه فصلاً خريفياً بامتياز، يحرص، مرّة كل أربع سنوات، على تغيير طباعه، بحلوله مصحوباً بارتفاع مفاجئ في درجة حرارته، تسببه حمّى الانتخابات الأميركية. ولذلك، مرّة كل أربع سنوات، في شهر نوفمبر، يحبس العالم أنفاسه، وتتوقف عجلة الزمن عن الدوران، انتظاراً وترقباً لمعرفة اسم الساكن الجديد للبيت الأبيض في واشنطن.
ليس بمقدور حتى أبعد الناس اهتماماً بالسياسة تجاهل الارتباك الذي تحدثه الانتخابات الأميركية في إيقاع حركة العالم. وليس بمقدور أحد الانصراف عن متابعة تطوراتها حتى خط النهاية. أميركا، رغماً عن تضارب واختلاف مواقفنا ومشاعرنا نحوها، ما زالت تتربع على عرش قيادة العالم، اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً.
ما يميز الانتخابات، هذه المرة، أن كلاً من المرشحين في العقد الثامن من عمره: المرشح الجمهوري دونالد ترمب 73 عاماً، والديمقراطي جو بايدن 77 عاماً. لكن الناخب الأميركي، في نوفمبر القادم، سيجد نفسه مضطراً لاختيار واحدة من أميركتين مختلفتين معروضتين أمامه: أميركا الرئيس الحالي والمرشح للمرة الثانية للرئاسة دونالد ترمب، وأميركا المرشح الديمقراطي جو بايدن.
الانتخابات القادمة، بسبب الارتباك الذي أحدثه الوباء الفيروسي في الحياة العامة، سوف تعتمد على التصويت بريدياً، في سابقة أولى وغير معهودة. واستناداً إلى المراقبين والمحللين، ستكون متميزة لأنها، أولاً، سوف تتمحور معاركها حول شخصيتي المرشحين المتنافسين، وهذا يعني أن الحزبين سيركزان على إدارة حملات انتخابية سلبية، بهدف التشويه. وثانياً، لأنها للمرة الأولى تضع الناخب أمام خيارات لسياسات تتعهد إيجاد حلول لأربع من أسوأ الأزمات التي واجهتها أميركا خلال نصف قرن: أسوأ أزمة وبائية. أسوأ أزمة اقتصادية منذ أزمة الكساد في النصف الأول من القرن العشرين. أسوأ أزمة عنصرية منذ الستينات، وأسوأ أزمة بيئية. وإلى حد الآن، يتقدم المرشح الديمقراطي في استبيانات الرأي العام بعشر نقاط. لكن مسألة الاستبيانات، حالياً، ليست مؤشراً على احتمال هزيمة الرئيس الحالي ترمب، الذي لا يخلو جرابه من مفاجآت قادرة على قلب الموازين. ولعل بعضنا ما زال يتذكر ما حدث في انتخابات رئاسية سابقة وتحديداً في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حين تمكن المرشح الجمهوري جورج بوش الأب، من إلحاق الهزيمة بمرشح الحزب الديمقراطي السيناتور دوكاكيس الذي كان يتقدمه في استبيانات الرأي العام. وقرأتُ، مؤخراً، أن تلك الانتخابات تحديداً كانت البداية لما عرف فيما بعد باسم الحملات الانتخابية السلبية، التي تركز على تشويه سمعة الخصم. الجدير بالملاحظة هو أن المرشح بايدن، وفقاً لتقارير إعلامية، يحظى بشعبية متدنية لا تتجاوز 5 في المائة في ولايات مهمة مثل ويسكنسون وأريزونا وبنسلفانيا.
على عكس ترمب، الذي بدا كأنه أنزل بمظلة من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة، وفاز عام 2016 بمفاتيح البيت الأبيض من أول سباق، دخل المرشح الديمقراطي جو بايدن، السياسة شاباً، وكبر في دهاليزها متدرجاً حتى أصبح نائباً للرئيس باراك أوباما لمدة ثمانية أعوام، وله تاريخ مسجل من الخيبات والفشل في عدة سباقات رئاسية، آخرها كان في عام 2008، ولم يتمكن حتى من تجاوز العتبة. وها هو الآن، بعد قرابة نصف قرن، يجد نفسه على مرمى حصاة من الوصول إلى تحقيق حلمه، ليكون الرئيس 46 لأميركا.
في حملته الانتخابية الأولى للرئاسة عام 1998، عمل بايدن على تقديم نفسه للناخبين على أنه جون كيندي جديد. لكنه اضطر إلى مغادرة حلبة السباق بعد أن تبيّن أنه انتحل أجزاء كبيرة من خطاب لزعيم حزب العمال البريطاني الأسبق نيل كينوك. ولكنه على عكس السيدة هيلاري كلينتون، التي فشلت في توحيد الناخبين الديمقراطيين خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، خصوصاً من أنصار السيناتور ساندرز، تمكن بايدن من إقناع الناخبين أنفسهم بالوقوف في صفه، ودعم ترشيحه، ضامناً بذلك توحيد صفوف الديمقراطيين في جبهة واحدة، بعد سنوات من الانقسام، في مقابل عرض بمنحهم فرصة للمساهمة برأيهم في صياغة مسودة بيان الحزب الانتخابي. ما يثير القلق هو أن ضمان دعم السيناتور بايدن وجناحه اليساري في الحزب، ربما يتحول إلى نقطة ضعف خلال اشتداد الحملة الانتخابية، يستخدمها ضده الجمهوريون بكونه أسيراً في قبضة اليسار. أضف إلى ذلك، أن اختياره للسيناتورة كامالا هاريس نائبة له، قد يقدم ذخيرة نادرة للجمهوريين للنيل منه، وبالتركيز على ماضيها اليساري، وربما يلجأون إلى استغلال نقدها لبايدن، خلال مرحلة التسابق الأولية للحصول على دعم أنصار الحزب. وفي حالة تدخل حسن الحظ، وتمكن السيناتور بايدن من الفوز فإن أولى مهامه عقب انتهاء حفل تنصيبه رئيساً وأدائه للقسم، ستكون، بلا شك، تفعيل شدة المواجهة مع الوباء الفيروسي، وإعادة ضخ الحياة في شرايين الاقتصاد الأميركي على أمل حل مشكلة ارتفاع البطالة، مضافاً إلى ذلك التدخل لتفريغ شحنة الاحتداد العنصري.