تقف الآن «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي)، الراعي الناقل لحدث يشاهده الملايين، في مرمى النيران، نتيجة للجدل الحاد المثار حول إمكانية التخلي عن أنشودتين «شوفونيتين» تؤديان خلال الحفل الموسيقي كل عام.
وقد كشفت هذه الزوبعة عن أزمة ثقة في أكبر وسيلة إعلامية في البلاد، في وقت تزامن مع تولي مديرها العام الجديد، تيم ديفي، مهام منصبه، حيث يخشى كبار المسؤولين التنفيذيين في «بي بي سي» (جميعهم من ذوي البشرة البيضاء) مواجهة اتهامات بالعنصرية. لكن في ظل هجوم من الساسة المحافظين، فإنهم في حاجة أيضاً إلى إثبات تواصلهم مع قيم الجماهير العريضة من الشعب البريطاني.
تُظهر «هيئة الإذاعة» حالة من الارتباك ناجمة عن هذه القضية التي تعيشها في الوقت الحالي. فإذا اجتاحت حرب ثقافية على النمط الأميركي بريطانيا، فيمكنك المراهنة على أن هذه المؤسسة المحاصرة غالباً ستقع في مرمى النيران.
يُقام الحفل الموسيقي سنوياً في قاعة «ألبرت» الملكية في «كينسينغتون»، ويقدم خلاله أنشودة «روول بريتانيا» (وتعني: احكمي يا بريطانيا)، و«لاند أوف هوب آند غلوري» (وتعني: أرض الأمل والمجد)، من تلحين الإنجليزيين توماس أرن وإدغار آلان، ودائماً ما ترى الجمهور يلوح بأعلام المملكة المتحدة، والجميع يردد كلمات الأغاني المنمقة نفسها.
تواترت تقارير تفيد بإسقاط الأغنيتين من البرنامج بسبب اعتراضات أثارتها قائدة الفرقة الموسيقية الفنلندية المؤيدة لحركة «بلاك لايفز ماتر» الأميركية المتعاطفة مع السود، رغم أن المقربين منها أفادوا بأن قرار إسقاط الأنشودتين قد صدر عن «هيئة الإذاعة البريطانية». وبعد الاحتجاج على الاستبعاد المحتمل للأنشودتين، قالت «بي بي سي» إنه سيتم عزفهما، لكن من دون كلمات.
ويعود تاريخ أنشودة «احكمي يا بريطانيا» إلى عصر التفوق البحري للبلاد في أربعينيات القرن الثامن عشر، وتتضمن عبارة تقول إن «البريطانيين لن يكونوا عبيداً أبداً»، ومقطع آخر يقول «ندين الطغاة المتغطرسين». وعلى المنوال نفسه، فإن أنشودة «أرض الأمل والمجد» غير محببة لأن «أم الأحرار» -حسبما تصف الأغنية بريطانيا- كانت تحكم إمبراطورية شاسعة لم تكن تنعم بالحرية وقت تأليفها.
والنشيد الوطني للبلاد (حفظ الله الملكة) ذو الإيقاع الحزين ليس أفضل حالاً، إذ إنه ببساطه يتحدث عن «تشتيت الأعداء» وعن «حيل» في أغانٍ يفترض أنها وطنية! والجدل هنا أن معظمها يعكس الوعي السياسي والمفردات في وقت سابق، وليس وقتنا الحالي.
وعندما تواترت الأنباء في البداية عن نية «بي بي سي» إسقاط الأغنيتين، طالبت عريضة عبر الإنترنت، تزامنت مع حرائق الغابات، بالإبقاء عليهما. وانضم أعضاء حزب المحافظين في البرلمان والصحف اليمينية إلى المعركة، يؤيدون بقاء الأنشودتين، على أساس أن أي عذر لضرب «هيئة الإذاعة البريطانية» أمر مرفوض، بصفتها معقل الليبرالية.
وأدان رئيس الوزراء بوريس جونسون «الحرج والألم الذي جلبه ذلك الجدل حول تاريخنا». وحتى معارضة حزب العمال نأت بنفسها عما يجري، حيث يدرك زعيم الحزب الجديد، كير ستارمر، افتقار سلفه جيريمي كوربن للوطنية، وهو ما كلف الحزب أصوات الملايين من الطبقة العاملة البيضاء.
وتلقى الرئيس (الأسود) السابق «للجنة المساواة العرقية» في المملكة المتحدة، تريفور فيليبس، ضربة سريعة، إذ يعتقد أن السجل البريطاني الأخير في مجال العرق ليس بهذا السوء. ومن وجهة نظره، فإن «بي بي سي» تشعر بالذنب لفشلها في ترقية السود والآسيويين إلى المناصب العليا، ولذلك تعمد إلى تبسيط هذا الشعور بالذنب بفرض رقابة على الأغاني.
غير أنه في مكان آخر من «بي بي سي»، ثمة قصة ترويها عن ترويجها للأقليات العرقية. فأمام الكاميرا والميكروفون ما يقرب من 26 في المائة من صحافييها من الأقليات العرقية، وهو أكثر من ضعف تمثيلهم في المؤسسات الإعلامية الأخرى، فيما تبلغ نسبة تلك الفئات 9 في المائة في المناصب الإدارية.
إن طموح «بي بي سي»، ومبرر رسوم الترخيص الإجبارية التي تدفع مقابل عملها ووجودها، من المفترض أن يخدم جميع الأجناس والمناطق والفئات والتركيبة السكانية لتعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع الوطني. وكما اعترف مايكل غراد، رئيس «هيئة الإذاعة البريطانية» السابق، فإن «بي بي سي» تميل غالباً إلى التفكير الجماعي. ولكن في خارج لندن، يرى كثير من الناس أن العولمة والتغير السريع يشكلان تهديداً للهوية الوطنية، فهل تعكس برامج «بي بي سي» في لندن هذا الخوف أو حتى تدركه؟
يقول تيم ديفي إنه يرى المشكلة في تحيزات «هيئة الإذاعة البريطانية»، ويريد من قسمي الأخبار والشؤون الجارية أن يتحدوا الافتراضات، وأن يُظهروا مزيداً من الفضول الفكري حول البلد بأكمله.
لكن ثمة مشكلة متأصلة في كونها هيئة إذاعة وطنية في مثل هذه الأوقات الثقافية المحمومة، فهي غير مرضي عنها في كل ما تفعله: فإذا حظرت أنشودة «روول بريتانيا» ستكون محارباً للعدالة الاجتماعية، وإذا أسقطت الأغنية ستكون ممولاً للإمبرياليين. غير أنه يتعين على تيم ديفي أن يكون حازماً واضحاً بشأن اختيار الأناشيد الوطنية التي تستحق الحفاظ عليها، وهو ما يعني ضرورة التدقيق في الموسيقى، حتى لو كانت أنشودة «أرض الأمل والمجد».
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
«بي بي سي»... زوبعة الحاضر ومآلات التاريخ
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة