أول شيء صفعني في وجهي ما إن دخلت المكتبات الفرنسية مؤخرا، كتاب ضخم يحمل عنوانا عريضا بالخط الأحمر اللافت للنظر فورا: «الانتحار الفرنسي»! قلت بيني وبين نفسي: يا سبحان الله هم يتحدثون عن الانتحار الفرنسي رغم غناهم وتفوقهم في شتى المجالات فماذا يمكن أن نقول نحن إذن؟ من سيؤلف كتابا ضخما بعنوان: الانتحار العربي أو التفكك العربي أو الانهيار العربي؟ لكن دعونا من هذه المقارنات البائسة وغير المجدية لسبب بسيط هو أن المقارنة ممنوعة هنا. لماذا أيها الفطحل؟ لأنك ينبغي أن تقارن المتفوق مع المتفوق والمتخلف مع المتخلف، أي فرنسا مع ألمانيا أو إنجلترا وليس فرنسا مع العرب أو العجم. إنهم يرفضون أن نُقارن بهم حتى ولو على سبيل الانتحار! في البداية رفضت شراء الكتاب عندما عرفت أن صاحبه هو مجرد صحافي وليس مفكرا مشهورا أو أستاذا جامعيا كبيرا. ثم مرت الأيام والأسابيع وأدركت فجأة أني لا أستطيع أن أتحاشاه مهما فعلت. في كل مرة أجده أمامي في واجهة جميع المكتبات التي زرتها. لكأنه يلاحقني من مكان إلى آخر. ولكني قاومت وقاومت حتى استسلمت في آخر لحظة فاشتريته من مطار أورلي قبل مغادرتي لفرنسا بـ5 دقائق فقط! قلت يا رجل لماذا لا تتصفحه وتطلع على أطروحته؛ فقد يكون فيه شيء مفيد ومثير للتأمل والاعتبار؟ صحيح أن فلسفة التاريخ العميقة ليست من اختصاص الصحافيين السطحيين والمتسرعين في معظمهم. ولكن من يعلم فقد يكون الرجل قد توصل إلى كشف ما، وهو على أي حال يساعدك على فهم المجتمع الفرنسي والحضارة الفرنسية التي عشتها وشاهدتها على مدار عدة عقود متواصلة. والواقع أنه توجد لديّ أفكاري الخاصة عن الانتحار الفرنسي. وبالتالي فقد رغبت في قراءة الكتاب لمعرفة ما إذا كان تشخيصي لهذا الانتحار الحضاري يشبه تشخيصه من قريب أو بعيد. أنا شخصيا اعتبر مشروع «الزواج للجميع» الذي شغل فرنسا طيلة عام كامل أكبر مؤشر على بدايات الانتحار الفرنسي. وهو انتحار لا يسعدني على الإطلاق؛ لأن فرنسا كانت من أجمل الحضارات ولا تزال حتى الآن، رغم كل هذه الانحرافات والظواهر المقلقة. أنا لا أفهم كيف يمكن لزواج الرجل بالرجل أن يشكل قمة الحضارة والحداثة والتقدم! هذا شيء يتجاوز عقلي وإمكانياتي. لا يستطيع كل علماء فرنسا ولا كل فلاسفة الغرب أن يقنعوني بذلك. ولحسن الحظ فإن قسما كبيرا منهم يشاطرني الرأي ولا ينصاع للموضة العابرة والضجيج الإعلامي المكثف. والدليل على ذلك أن كبار شخصيات فرنسا وعقلاءها وحكماءها وجهوا رسالة إلى الرئيس الفرنسي يحذرونه فيها من هذا الانحراف الخطير. وقد ركزوا على مسألة أخرى هي تأجير بطون الأمهات! وقالوا له: إياك ثم إياك أن تفعلها يا فخامة الرئيس. إياك أن تسن قانونا بهذا الخصوص كما فعلت بخصوص زواج المثليين (لم نعد نتجرأ على أن نقول الشواذ. أتحدى أي شخص في فرنسا أن يستخدم هذه الكلمة حاليا). وبالفعل فقد تراجع ولم يتجرأ على القبول بذلك. للمعلومة فإن المرأة تؤجر بطنها مقابل الفلوس. والطفل الذي يخرج من أحشائها بعد 9 أشهر ليس لها وإنما لمن استأجروا بطنها ودفعوا لها مبلغا يتراوح بين 50 و60 ألف يورو.لقد تحول بطن الأم إلى سلعة تباع وتشترى مثل بقية السلع. عندما تصل حضارة ما إلى هذا المستوى فعلى الدنيا السلام. إنها بداية الانحطاط والتدحرج المتسارع نحو الهاوية. على الأقل هذا ما يعتقده المتخلفون عقليا من أشكالي. وأعترف بأني لن أصبح حضاريا فيما يخص هذه المسألة حتى ولو بعد مليون سنة. ماذا يقول إريك زمور في هذا الكتاب؟ لا تتوقعوا أن ألخص لكم كتابا يتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير ببضع كلمات. لست متفقا مع كل ما جاء في الكتاب. بل إني أختلف كليا مع المؤلف فيما يخص موقفه من جالياتنا العربية والإسلامية؛ فوجودها حظ لفرنسا، كما أن فرنسا الحداثية الديمقراطية حظ لها. إنها نعمة لا نقمة يا إريك زمور. كم هي سخيفة فكرة تهجير 5 ملايين إلى الضفة الأخرى من المتوسط! إنها لجنون. لحسن الحظ فإن الشخصيات الفرنسية المحترمة ردت عليك فورا وأفحمتك، ومن بينهم وزير الداخلية ذاته. ولكن فيما يخص زواج الشواذ وتفكك العائلة الفرنسية وشيوع الإباحية والتطبيل للشذوذ على مدار الساعة، فإني متفق معه تماما. أقول ذلك وبخاصة أنه تعرض لحملة شرسة من قبل لوبي المثليين الضخم والنافذ في باريس؛ فقد هاجموه بتهمة أنه «عنصري» ضد المثليين الشواذ. وقالوا ما معناه: «لا نستطيع أن نصدق أن شخصا رجعيا كهذا لا يزال موجودا في بلد حضاري كفرنسا. هذه عودة إلى الوراء. هذا الرجل يريد أن يعرقل حركة التطور». لاحظوا كيف انقلبت الأمور عاليها سافلها. لقد آن الأوان لكي تنتهي تلك الآيديولوجيا الإباحية التي هيمنت على فرنسا بعد انتفاضة مايو (أيار) 1968 والتي بالغت في انتهاك كل ما هو معقول ومقبول. نحن نتطرف في اتجاه وهم يتطرفون في الاتجاه المعاكس. خير الأمور أوساطها!
أخيرا، لماذا كتبت هذا المقال؟ لكي أحذر كل التحذير من تقليد الحداثة الغربية في كل ما تفرزه من انحرافات وتطرفات وانزلاقات. لا أحد يستطيع أن يزايد عليّ حداثيا أو تنويريا. لقد أمضيت عمري في هذه القصة. ولكن هذا لا يعني أني موافق على كل ما هب ودب!
8:7 دقيقه
TT
لماذا تنتحر الحضارات الجميلة؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة