توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

معنى أن يكون التعليم العام واسعَ الأفق

ركَّز مقال الأسبوع الماضي على حاجتنا لتطوير النظام التعليمي، على ضوء التحولات التي سيشهدها العالم مع نضج «الثورة الصناعية الرابعة». مع هذه الثورة سنرى عالماً جديداً واقتصاداً غير ما عهدناه. وأذكر هنا بما شهد العالم من تحول في الثقافة والاقتصاد بعد الثورة الأولى، يوم صنع المحرك البخاري في أواخر القرن الثامن عشر، وما حصل عقب الثورة الصناعية الثانية، التي تنسب إلى ظهور الكهرباء ومكائن الاحتراق الداخلي، والثورة الثالثة التي ترتبط بظهور الكومبيوتر والإنترنت والأدوات الرقمية عموماً. نحن الآن نفهم التحولات الهائلة في حياة البشرية التي أثمرت عنها هذه الثورات، ونعلم أنَّ الثورة القادمة ستحمل تحولات أعمق وأوسع، ليس فقط في الاقتصاد، بل في الأخلاق والثقافة أيضاً.
إنَّ السمة الأبرز في التحولات الجارية اليوم، هي اتساع الأفق. التكامل الفائق بين الآلات في أحجامها الصغيرة، مع أنظمة الذكاء الصناعي والاتصالات عالية السرعة، أدَّى فعلياً إلى توسيع المساحات التي يراها الإنسان ويستوعبها، على نحو غير مسبوق. الواقع أنَّ انتشار الإنترنت خلال العقدين الماضيين، قد مهَّد هذا الطريق، فبات كل إنسان قادراً على رؤية أجزاء من العالم، لم يتخيل وجودها سابقاً.
لكن ما نعرفه حتى الآن هو نموذج مصغر، عما سيعرفه العالم في السنوات المقبلة. مع توفر أنظمة الاتصال الفوري بكلف منخفضة، فإنَّ كافة شرائح المجتمع ستكون متصلة بالعالم الافتراضي، ولن تعود مصادر المعلومات قصراً على المثقفين أو المهندسين أو من يتقن اللغات الأجنبية.
كل شخص على هذا الكوكب، سيكون قادراً على التفاعل المباشر مع أسواق ومجتمعات، ومصادر عيش ووسائل عمل وترفيه ومصادر معلومات، لم يتواصل معها سابقاً بسبب حواجز اللغة أو المال أو القيود السياسية. هذه كلها ستزول تدريجياً. إنَّ كثافة المعلومات وسرعة الاتصال، سوف تجعلان المراقبة والحجب المادي مكلفة وغير فعالة، أما حاجز اللغة فهو زائل بالتأكيد مع تطور برامج الترجمة الفورية الذكية.
إنَّ غالبية الناس يهتمون بالتعليم، لأنَّه الطريق الوحيد تقريباً لضمان حياة مستقرة لأبنائهم. التقديرات المتوفرة فعلاً تشير إلى أنَّ الثورة الصناعية الرابعة ستلغي 700 نوع من الوظائف، أو تحولها إلى الآلات. هذا يعني أنَّ على الآباء أن يفكروا في وظائف لأبنائهم، من نوع مختلف عما اعتادوا عليه.
في ظني أنَّ الموضوع الذي ينبغي أن يشغل القائمين على التعليم هو «سعة الأفق»، أي السمة الرئيسية للثورة الصناعية الرابعة. سعة الأفق تعني مثلاً الاستعداد التام للتكيف، مع اقتصاد جديد وأشخاص جدد وثقافات مختلفة، وأنماط عيش غير مألوفة. ومنها أيضاً إعداد الشباب كي «يخلقوا» مصادر عيشهم، ولا ينتظروا وظيفة في دائرة حكومية أو شركة. هذا يعني أن يركز التعليم على تعزيز كفاءات التفكير والإبداع عند كافة الشباب، كي لا تكون الوظيفة بالمعنى التقليدي غاية ما يطمحون إليه.
تطور التقنية سيلغي مئات الوظائف التي نعرفها. لكنه سيأتي أيضاً بفرص جديدة كثيرة جداً. المهم في كل الأحوال هو تجهيز أبنائنا بوسائل احتواء التحدي، ومن أهمها التفكير العلمي، حيوية الذهن، الإبداع، الاعتماد المطلق على الذات والرغبة في التعلم.
إنَّ الخطوة الأولى في تطوير التعليم، هو تحريكه بهذا الاتجاه، أي مساعدة الشبان كي يكونوا مستقلين، راغبين في التعلم، ومستعدين للمغامرة.