حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

العدالة للبنان

كنت أظن أن ما شهدته بيروت يوم الأحد، الأول من أغسطس (آب) عام 1982، لن يتكرر. حاول شارون تركيع العاصمة بـ185 ألف قذيفة. تلاحقت الغارات الجوية، غارة كل 3 دقائق لمدة 15 ساعة متواصلة، بعدها خرج الناس لملموا الممكن ولم تتمكن دبابات العدو من اختراق لا محور المتحف ولا محور المرفأ. آنذاك كان العدو خارجياً، لكن الانفجار الهائل (أو التفجير) الذي حصل مساء الرابع من أغسطس 2020 اختصر في دقائق كم تختزن منظومة الفساد من عدوانية ضد المواطنين وأحقادٍ دفينة على العاصمة والبلد والحاضر والمستقبل. تسببوا في تدمير الجزء الأكبر من بيروت التي بدت كأرضٍ محروقة. مجزرة قتلوا فيها وشردوا وهجروا وحرموا عشرات ألوف العائلات من سقف يؤويهم كان المتبقي لهم بعد نهب البلد والسطو على الودائع. فوق ذلك كله بات لبنان من دون مرفأ مع ما يعنيه ذلك من فاجعة ستترك آثاراً عميقة لعدة عقود!
ببساطة بعدما نهبوا كل شيء وأفقروا المواطنين ما من ضير أن يموتوا. ما من مواطن صدّق مزاعمهم وفي مهلة الأيام الخمسة لتقصي الحقيقة سيعمدون إلى إلباس الجريمة إلى كبش فداء حمايةً لمواقعهم، وسيقفزون عن المسؤولية عن وجود مخزنٍ للموت ملاصقٍ للأحياء السكنية. لكن ما تلهج به الألسن غير ذلك، فالكارثة الحقيقية هي المنظومة التي تدير البلد وترتهنه للخارج. إنها العصارة الصافية لتحالف ميليشيات الحرب والمال الذين احتموا ببندقية الدويلة وتحالفوا مع الجائحة ضد الناس ولا حلّ إلاّ برحيلهم. كم الشبه كبير بين التفجير - الزلزال مساء الرابع من أغسطس 2020 والتفجير الكبير الذي استهدف الرئيس الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، مع فارق أنه في زمن «ثورة تشرين» لن يتمكنوا من الحفاظ على كراسيهم!
اليوم يقف لبنان على مسافة أيام قليلة من النطق بالحكم في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، حيث من المتوقع أن تُدين المحكمة المسؤولين الكبار في «حزب الله»، الذين صدر بحقهم الاتهام بهذه القضية: سليم عياش، حسن مرعي، حسين عنيسي، وأسد صبرا، بعد استبعاد المتهم الخامس مصطفى بدر الدين الذي أُعلن عن مقتله في سوريا يوم 13 مايو (أيار) 2016. أكثرية المواطنين تتطلع إلى هذا التاريخ لأنها تعدّه موعداً مع العدالة للبنان، وأن زمن تجهيل الفاعل انتهى، وأن الحكم الجنائي يوجب معاقبة المرتكبين! (كان من المتوقع صدور الحكم غداً الجمعة لكنه تأجل حتى الثلاثاء 18 أغسطس/آب الجاري).
أن يستأثر موعد صدور الحكم بالاهتمام فهذا الأمر من البدهيات، لأن الحكم وإن كان غير مبرم بانتظار الاستئناف حتى يكون قابلاً للتنفيذ، فهو محطة مفصلية في السياسة اللبنانية، لأنه مع هذا الحدث يتمّ تجاوز الاتهام إلى صدور الحكم المعلل من خلال أدلة ثابتة، ما يعني أن هذا الأمر سيرسم ملامح جديدة لدى الرأي العام من شأنها أن تترك بصمات على المسار السياسي للبنان. وسيكون أمراً مؤثراً جداً لو أتاح مسار الحكم القضائي بحق القتلة تسمية الآمرين إلى جانب المنفّذين، وهذا لا يتنافى مع نظام المحكمة التي لا تحاكم أنظمة ولا كيانات... بل إن تبيان هذا الجانب ضروري كي لا يبقى كبار المسؤولين عن القتل خارج المحاسبة، فالجريمة تطلبت بالتأكيد تنسيقاً عابراً للحدود، خصوصاً بعدما راجت سابقاً معطيات عن أدوارٍ لبعض رموز النظام الأمني السوري الذين جرت تصفيتهم واحداً بعد الآخر من أمثال آصف شوكت، ورستم غزالة وجامع جامع! ومعروف أنه يوم ارتكاب الجريمة الكبرى كان رستم غزالة هو المسؤول الأمني السوري في لبنان!
أمران لفتا الانتباه مؤخراً في بيروت بعد تحديد موعد النطق بالحكم؛ الأول شريط صوتي تضمن وقائع من الحوار بين الرئيس الحريري والمسؤول السوري وليد المعلم وزير خارجية النظام السوري لاحقاً، والثاني تغريدة لرئيس الحكومة – الواجهة حسان دياب عن موعد حكم المحكمة الدولية.
في الشريط المسجل للحوار الذي جرى يسأل الحريري ضيفه عن السبب وراء اتهامه بأنه تحول من صداقة سوريا إلى محرضٍ عليها، وعن أنه بات متهماً بالعمالة للفرنسيين والأميركيين. وترد إشارة عما إذا كانت هناك نيات في مكان ما لاستخدام «حزب الله» ضد الرئيس السابق، رغم دور الأخير في إقناع جهات أوروبية كإسبانيا مثلاً بعدم تصنيف «الحزب» منظمة إرهابية.
تمت تلك الجولة في أواخر عام 2004 بعد وقت قصير من التغيير في العراق الذي أعقب إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003، وتسلُّم السلطة من الرموز التي عادت إلى بغداد على متن الدبابات الأميركية وكان لها التأثير الكبير في قرار حل الجيش العراقي، وتالياً تسليم مفاتيح بغداد لحكام طهران! في تلك الفترة كان الحريري بين أبرز الساسة العرب الذين تصدوا لمحاولات وسم العالم العربي، والسني خصوصاً، بالإرهاب، على خلفية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وبمعزل عن التأثير الذي مارسه من خلال محادثاته في واشنطن، فإن دوره هذا أثار الاستياء من طهران إلى دمشق.
رئيس الحكومة د. دياب كتب في تغريدته: «لازم نكون جاهزين للتعامل مع ارتدادات استحقاق 7 آب، موعد صدور الحكم بقضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري... فحسب معلوماتنا، (فإن) المعنيين بهالقضية رح يتعاطوا معها بشكل مسؤول لوقف الاصطياد في الماء العكر... مواجهة الفتنة أولوية وما لازم يكون في أي تساهل بهذا الموضوع»!
لقد تجاهل رئيس الحكومة الإشارة إلى مبدأ جلاء الحقيقة وضرورة تحقيق العدالة، لأن هذه المسألة تعني لبنان بعد الاغتيالات الكبيرة التي شهدها وقُيِّدت ضد مجهول. وربما فاته أن بروتوكولاً قائماً بين لبنان والأمم المتحدة بشأن المحكمة، كما أن بيروت واظبت على تسديد حصة لبنان من نفقاتها، فبدا تصريحه بمثابة تحذير بالنيابة، وتخويف من الفتنة، لأنه يعرف أن الإدانة ستطال «حزب الله» الذي لولا دعمه له لما كان اليوم في السراي... لذلك حاول الدفع باتجاه تجاهل الحكم والنأي بالحكومة عن مسؤوليتها! فيما لم يعد ممكناً تجاهل مواقف عامة الناس التي انطلقت من ضرورة أن تكون الحقيقة ملكاً للبنانيين، فكان التمسك بالعدالة للضحايا لأنه مدخل للاستقرار وحماية للأحياء في ممارسة حقهم في التعبير عن مواقفهم.
ختم الجروح الغائرة على زغل هو الخطر، والمطالبة بالإيفاء بموجبات العدالة لن تُحدث بالضرورة أي اضطراب، فكفى تحريضاً ومحاولة استثمار في الفتنة. من الصعوبة اليوم إغفال المعطيات الجديدة، بعدما سقطت التسوية الرئاسية وسقط معها نهج ربط النزاع مع «حزب الله»، ومن ستتم إدانتهم هم في النهاية ينتمون إلى حزب سياسي مشارك في السلطة، الأمر الذي سيعطي المسألة بُعداً سياسياً، ولنتذكر أن مجلس الأمن صنّف جريمة الاغتيال من طبيعة إرهابية، فالمرجح أن يترك ذلك، معطوفاً على زلزال الأمس، بصمات على كل المنحى السياسي ودور الساحات كما على تركيب الحكومات اللاحقة!