ميهير شارما
TT

الأسواق الناشئة تسدد الثمن مرتين

من واقع الحكم على أداء الأسواق الناشئة، من الصعب إدراك أن العالم يعاني راهناً من جائحة الفيروس الفتاك. وبعد رحيل شهر مارس (آذار) الرهيب بكل ما فيه من آلام، ووفقاً إلى بيانات «معهد التمويل الدولي»، فإن مَحافظ الاستثمار غير المقيمة قد ارتفع تدفقها إلى الأسواق الناشئة بمقدار عشرة أضعاف وصولاً إلى 32.9 مليار دولار في يونيو (حزيران) الماضي. وسجل مؤشر «إم إس سي آي» لعملات الأسواق الناشئة أعلى مستوى له في التداولات مؤخراً. وحتى العملات الضعيفة التداول - مثل الراند في جنوب أفريقيا - قد شهدت قدراً طفيفاً من الارتفاع.
وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يعني أن الأمور تسير على ما يرام في البلدان النامية على أي حال. وعلى أي اعتبار، فإن العديد من هذه البلدان سوف تواجه حالات من التعافي الاقتصادي الأكثر طولاً والأعمق إزعاجاً والأشد إيلاماً مما هو متوقع نظراً لشدة ذعر الأسواق اعتباراً من مارس من العام الجاري. ومن غير المرجح ولا المتوقع استرداد الأرباح في أي وقت قريب في المستقبل.
وفيما وراء هذا الفصل ما بين الأسواق والمشروعات الصغيرة المستقلة نجد الجاني المعهود في كل أزمة: البنوك المركزية في البلدان الثرية. وعلى غرار ما فعلوا في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 قامت البنوك المركزية الكبرى في كل من الولايات المتحدة، وفي الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، واليابان - من بين بنوك مركزية أخرى - بضخ كميات هائلة من السيولة النقدية في أسواقهم المحلية. ولقد انتعشت تلك الأسواق وتعافت بوتيرة سريعة كما كان مخططاً لها، واحتشد المستثمرون فيها، على النحو المنشود، خشية فقدان الفرصة الذهبية السانحة. ولكن هذه السياسات قد دفعت المستثمرين المؤسسين بدورهم إلى البحث عن الأرباح لدى الأسواق الناشئة.
وإذا ما جرى فصل تلك العملية بأكملها عن الواقع، فلن يحدث ذلك إلا وفق التصميم المقصود. ويكمن الغرض الأساسي من السياسة النقدية غير التقليدية في فرض حالة من انعدام العقلانية وفقدان الرشد على الأسواق.
ويأخذ الخبراء المطلعون على أحوال الأسواق هذا الانفصال على محمل الأمور المسلّم بها، تماماً كما صرح آجاي كومار، من شعبة الأوراق المالية لدى بنك «أوف أميركا»، إلى شبكة «بلومبرغ» الإخبارية قائلاً: «تشكل المعنويات والسيولة الجانب الأكبر من العوائد والأرباح في مثل هذه الأوقات». غير أن بقية بلدان العالم لا تتبع نفس المسار، وهي محقة في عدم القيام بذلك.
أجل، لقد أحسن بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وغيره من البنوك المركزية الكبرى الأخرى، فعلاً عندما عكس التدفقات شبه الكارثية لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة على النحو الذي كان واضحاً للجميع خلال الأسابيع الأولى من اندلاع جائحة وباء «كورونا» المستجد. رغم أن ذلك يتناقض مع نواياها المسبقة، إذ أسفرت تلك الإجراءات السريعة الصارمة على ارتفاع الأسواق الناشئة بحلول شهر يونيو من العام الجاري، ونجاحها في تحقيق أكثر من 83 مليار دولار مع أوائل ذلك الشهر في تداولات أسواق السندات العالمية. ولكن، كان حرياً بالأسواق الناشئة أن تكون قد تعلمت الدرس من الأزمة السابقة، وتدرك أن هذا المسار يتسبب في الكثير من الأضرار. وعلى المديين المتوسط والبعيد، من شأن طباعة أموال البنكنوت في البلدان الثرية أن تُثقل كاهل البلدان النامية بالمزيد من التقلبات الاقتصادية، وضعف النمو، وقلة الاستثمارات.
ففي الأعوام اللاحقة على الأزمة المالية في عام 2008، ومع وضع التجربة الهندية في الحسبان، حظيت البلاد بارتفاع كبير للغاية في السيولة النقدية مدفوعاً بالعديد من المحفزات. ثم ارتفعت الأسعار كثيراً بعد ذلك، مما أدى إلى زيادة معدلات التضخم.وأسفر تضخم أسعار الأصول عن حدوث آلام لا نهاية لها على الصعيد المحلي.
كما أننا لم نكن سادة مصائرنا كذلك، إذ دفعت كلمة من بن برنانكي - الرئيس الأسبق لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي - إلى حدوث انخفاض مريع في الروبية الهندية إلى مستويات هبوط قياسية لم تشهدها من قبل.
وبطبيعة الحال، فإن هذه العملية لن تتكشف عن نفس المجريات مرة أخرى. ولن يكون المحفز هذه المرة أسعار النفط، ولن تكون أسعار العقارات كذلك. ويمكننا القول إن شيئاً من هذا القبيل سوف يحدث مجدداً بكل تأكيد. ومن شأن كل هذه السيولة النقدية أن تستقر في موضع ما، وربما ينتهي الأمر بتدفقها إلى أي أصل من الأصول الحقيقية التي تعتبر ذات ندرة معتبرة وأكثر ثباتاً على اعتبارات التعامل في المستقبل.
وتكمن حقيقة أن أسعار الأسهم ومؤشرات العملات هي أكثر انفصالاً عن الواقع الراهن في أنها علامة من العلامات الأكيدة على استمرار العملية المشار إليها. وتلك هي القنوات الأولى التي تبدأ حالة انعدام العقلانية والافتقار إلى الرشد في إجراءات البنوك المركزية، لدى بلدان أخرى، في التأثير على الاقتصادات الناشئة. وحقق مؤشر «إم إس سي آي» لأسهم الأسواق الناشئة نجاحاً فصلياً كبيراً في الآونة الأخيرة،.
ومما لا شك فيه، من شأن مزيج السيولة النقدية غير المقيدة مع عقلية إدارة الأزمات أن يؤدي إلى إضعاف هياكل الحوكمة المهترئة بالفعل في كل من الأسواق المالية والاقتصاد الحقيقي. ولقد سبق تحذير البنوك المركزية الرئيسية في البلدان الغربية من تلك التداعيات في كثير من الأحيان. وتعيَّن على راغورام راجان، بصفته محافظاً لبنك الاحتياطي الفيدرالي الهندي، التعامل مع تبعات السياسات النقدية غير التقليدية الصادرة عن بلدان أخرى. ولطالما نادى بإرساء قواعد اللعبة لدى البنوك المركزية الرئيسية، حتى لا يؤدي الأمر إلى انعدام الاستقرار لدى الأسواق الناشئة في خاتمة المطاف.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»