حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عن ضرورة حياد لبنان

تحولت الطروحات المتدرجة التي تقدم بها البطريرك الراعي بشأن حياد لبنان إلى الحدث - الصدمة. استقطبت الاهتمام الداخلي وأثارت الاهتمام الخارجي وبدت في العمق محاولة جادة تريد إخراج لبنان من الحضيض الذي دُفع إليه. وسط الانهيار على كل الصعد، تراوحت مواقف الحكومة - الواجهة وأداؤها، وقد أنهت الشهر السادس في الحكم، بين الغياب الكلي أو التفرج على اللبنانيين يتضورون جوعاً ويغرقون في لجَّة الفقر المدقع والعوز، حتى بات الانتحار رفضاً للمذلة لا يثير مجرد ردة فعل عابرة لأي مسؤول (...).
حرك البطريرك المياه الراكدة بدعوة رئيس الجمهورية إلى تحرير الشرعية واستعادة القرار، ومن ثم إلى التأكيد أن «خلاصنا بالحياد وهو السبيل لنعيش البحبوحة مجدداً»، ومعلناً أن «لبنان حيادي بالأساس والميثاق الوطني ينص على الحياد والانفتاح على جميع البلدان إلا إسرائيل»... وطوّر دعوته بضرورة الذهاب مستقبلاً إلى مجلس الأمن لاستصدار القرار الذي يضمن الحياد.
من البداية ظهر جلياً أن الحياد كما طرحه البطريرك الماروني هو الفكرة المكملة للصياغة الدستورية المثبتة في مقدمة الدستور التي تقول: «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، والحياد هو الترجمة الحقيقية لذلك، وكل البيانات الوزارية منذ الاستقلال حتى مرحلة قريبة ركزت على الحياد، أي أن لبنان غير مرتبط أو مرتهن لأي بلدٍ آخر، وتؤكد تجربة دولة الاستقلال أنه كلما تم الإخلال بهذا المبدأ عاش لبنان توترات وصدامات داخلية. لكن الجهات التي اختطفت الدولة بالفساد والسلاح تعمدت تعميم إساءة فهم فكرة الحياد، وقدمت طروحات «سداها ولحمتها» النأي عن مسؤولية «حزب الله» عن عزلة لبنان وتالياً تسريع انهياره، بالدعوة إلى إرجاء الحياد إلى ما بعد حل مشاكل المنطقة وصراعاتها (...)، وقللت من أهمية الطرح لأنه حسبها أي حيادٍ هو والعدو الإسرائيلي على الأبواب! وقفزت هذه الجهات المؤيدة للدويلة فوق التشديد أن المطلوب الحياد عن الخلافات العربية، وحتمية طي صفحة خوض الحروب بالوكالة عن النظام الإيراني، والعودة إلى تثبيت التزام التضامن العربي، وليس حياداً عن الوقوف بوجه إسرائيل، لا بل إن عدم التورط في صراعات الإقليم من شأنه أن يعزز من قدرة لبنان على الوقوف بوجه أطماع العدو.
لقد بدت أولويات البطريرك الراعي، استعادة لبنان من العزلة التي دُفع إليها، حتى صار بلداً بدون حلفاء أو داعمين، بعدما تسببت حروب «حزب الله» ضد المنطقة في فقدانه الغطاء العربي التقليدي، وكذلك الغطاء الدولي. وبينت أولويات الطرح مصلحة المواطن، المقيم والمغترب، الذي فُرض عليه تحمل أوزار سياسات لا ناقة له بها ولا جمل. طبعاً ليس خافياً أن هذا الطرح موجه ضد سياسات ارتبطت بأجندة خارجية أملاها «حزب الله» على البلد. إنها سياسات قفزت فوق الدستور والمؤسسات والمصالح الوطنية والفردية وزجت لبنان في صراع محاور، ولا يتحمل «حزب الله» وحده المسؤولية عنها، بل هناك من مكّنه من اتباعها ووفر له التغطية. البداية كانت في اتفاق الدوحة حيث تم الانقلاب الجزئي على الطائف والدستور، وتُوِّج في التسوية الرئاسية عام 2016 عندما سلّم كل الأطراف قرار البلد إلى «حزب الله» ومن خلفه طهران، وصولاً إلى الحكومة التي «شكلها» الحزب وجاء بحسان دياب إلى رئاستها!
بهذا المعنى كسر شعار الحياد كعنوان تصدر كل الاهتمامات وهدف مطروح للتحقيق، كل الخيارات السياسية الرسمية التي اتبعها الرئيس عون استناداً إلى تفاهمه مع «حزب الله» منذ عام 2006، ونقض كل تحالفاته، ولو شاء القصر لوجد في طرح البطريرك مخرجاً من مغامرات «الحزب». لكن يبقى أن الطرح سحب من التداول ما كان يسمى غطاء مسيحياً لنهج «حزب الله» وسياساته، بعدما تأكد لكل صاحب بصيرة حجم الضرر الناجم عن استتباع لبنان، والتيقن بأن التمادي في هذه السياسات سيمنع لاحقاً إمكانية إصلاح الخلل، لأن مواصلة «حزب الله» نهجه داخلياً وفي المنطقة، ولا سيما في هذا الظرف، حيث تعممت الاستباحة من جهة، ومن الأخرى يتم تحويل لبنان إلى منصة عدوان ضد العرب ما بات يهدد وجود الدولة!
بالتأكيد ليست المرة الأولى التي تطرح فيها مثل هذه المسألة، ولعل ثورة تشرين التي نادت باستعادة الدولة المخطوفة، ذهبت ضمناً إلى المطالبة بالحياد مستندة إلى أعمق وأوسع تحرك شعبي عابر للمناطق والطوائف. غير أن «إعلان بعبدا» الذي أذاعه رئيس البرلمان نبيه بري من القصر الجمهوري يبقى المحطة الأبرز. كان ذلك في الحادي عشر من يونيو (حزيران) 2012، وقد أقرته لاحقاً المؤسسات اللبنانية كما اعتمدته الجامعة العربية والأمم المتحدة وثيقة رسمية إلى جانب وثيقة الوفاق الوطني والدستور.
في البنود الـ17 تمسكٌ لا لبس فيه باتفاق الطائف، وتشديد على أن «لبنان وطن نهائي»، وتنبيه من الخطر الذي يمثله العدو الإسرائيلي، وإعلان بوجوب «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية»، وتجنيبه انعكاسات التوترات والأزمات الإقليمية «حرصاً على مصالحه ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي»، ويؤكد التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية».
وفي الإعلان الشهير الذي وقعه عن «حزب الله» النائب محمد رعد، وعن التيار الوطني رئيسه آنذاك النائب ميشال عون، تشديد على «ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية - السورية»... وتأكيد على رفض أن يكون لبنان «مقراً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين»!
لم يعمر إعلان بعبدا، ولا النأي بالنفس، فقد تكرر ما حصل في عام 2006 عندما توقع حسن نصر الله صيفاً واعداً ليتم لاحقاً أخذ لبنان إلى أتون حرب تموز، حرب «لو كنت أعلم»! انقلب «الحزب» على تعهداته كما على توقيعه، ليعلن بعد فترة النائب رعد أن «إعلان بعبدا ولد ميتاً ولم يبق منه إلّا الحبر على ورق». لكن ذلك لم يكن كافياً لتغطية التزام الحزب الأجندة الإيرانية، فاجتاحت ميليشياته الحدود كفصيل من «فيلق القدس» لقتال السوريين دفاعاً عن نظام الأسد! وانتشرت ميليشيا لاحقاً في كل المنطقة، من العراق واليمن إلى البحرين والكويت... ولم يتأخر نصر الله عن إبلاغ اللبنانيين بأن من ينتصر في الإقليم يحسم الوضع الداخلي اللبناني!
رياح الإقليم قد لا تكون تماماً مواتية لـ«حزب الله» ولا لطهران، والفارق كبير جداً بين ما كان عليه لبنان عام 2006 (حرب تموز) واليوم، حيث تسبب الفساد والارتهان إلى الخارج في الانهيار الأخطر فباتت المجاعة تهدد الأكثرية، ليشكل طرح البطريرك ما يشبه بوليصة إنقاذ رغم الصعاب والعقبات التي تحيط بها.