مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

هل للجوار آيديولوجية مشتركة؟

بداية الحديث عن مفهوم الأمن القومي العربي، والجوار غير العربي (إسرائيل وإيران وتركيا)، هي تعريف طبيعة هذا الجوار، ونوعية التهديد الذي يمثله. وأبدأ حديثي بالسؤال البديهي: ترى ما الذي يجمع هذه الدول المختلفة آيديولوجياً وعرقياً، المتباينة اقتصادياً وسياسياً، ويدفعها دفعاً إلى العدوان على الأراضي العربية؟ أعتقد أن تحديد ما يجمع هذه الدول هو بداية جيدة قبل الحديث عن الأمن الإقليمي. وهنا أدعي - متحملاً تبعات هذا الادعاء - أنَّ الجوار غير العربي هو جوار فاشي بالأساس، وتلك الفاشية هي الآيديولوجيا التي تجمع كلاً من إسرائيل وإيران وتركيا، ورؤية هذه الدول لكل ما هو عربي، أرضاً وثقافة. وأنا هنا على استعداد لأخذ هذا الادعاء إلى نهايته المنطقية، مع من يدعون غير ذلك من عقلاء هذا الجوار.
الفاشية هي آيديولوجيا ترجع أصولها الفكرية إلى القرن التاسع عشر، ولكنها تجلت سياسياً في بدايات القرن العشرين، خصوصاً في ألمانيا هتلر وإيطاليا موسوليني. والفاشية في تعريفها المبسط هي زواج بين العنصرية والوطنية الشيفونية (racism and nationalism). وهذا الزواج هو الذي حدَّد هوية ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، ومعهما اليابان في فترة ما قبل الحربين. وعندما أدعي هذا، فأنا مدرك تماماً لحساسية هذا الادعاء بالنسبة لمن تجرعوا أقسى درجات العنف من النازية الألمانية، خصوصاً اليهود ضحايا المحرقة. ومع ذلك، فهذا لا يمنعني من تصنيف إسرائيل على أنها دولة فاشية بناء على موقفها من الفلسطينيين خصوصاً، والعرب عموماً. فالناظر إلى تاريخ الحركة الصهيونية كآيديولوجيا بناء للدولة لا تفوته ملاحظة الزواج بين العنصرية والوطنية الشيفونية، فهي دولة تتمتع بوطنية شيفونية أساسها التفوق العرقي في سرديات يهودية الدولة، وسرديات شعب الله المختار، وفي هذا زواج بين العنصرية والوطنية الشيفونية، وهذا هو تعريف الفاشية بالنسبة لي.
وانزلاق إسرائيل إلى الفاشية ليس اتهاماً عربياً. ففي إسرائيل ذاتها، يدور هذا النقاش، إذ كتب يواف رينون مقالاً في «هآرتس»، في يونيو (حزيران) 2019، بعنوان «انزلاق ألمانيا وإسرائيل إلى الفاشية ليس مجرد صدفة» (Yoav Rinon - هآرتس - 6-6-2019)، يناقش فيه وجه التشابه بين الصهيونية والفاشية الألمانية، وظروف ظهور كل منهما، وينتهي إلى أنَّ البحث عن حل للأزمة اليهودية لم يكن بمزج الهوية اليهودية بالعلمانية لتكون أكثر اتساعاً، ولكن تمَّ مزجها بالدين لتنتج مجتمعاً عنصرياً. ومن خلال خلط التطرف الديني بالهوية وبالعنصرية، دخلت إسرائيل عالم الفاشية؛ ومزج الشيفونية الوطنية بالدين لإنتاج الفاشية هو نقلة طبيعية للحديث عن إيران.
موقف الإيرانيين من العرب ليس أفضل حالاً من حيث العنصرية، فالدارس للأدبيات السياسية الفارسية لا تفوته ملاحظة تلك العنصرية تجاه العرب. ومنذ القادسية، أي منذ ما يقرب من 1400 عام، والثقافة الفارسية تعاني أزمة عنصرية تجاه العرب، وقد تضاعفت هذه العنصرية بإدخال الطائفية والمذهبية في السياق السني - الشيعي. ومن يتابع الثقافة الشعبية الإيرانية لا تفوته ملاحظة العنصرية التي تختلف عن عنصرية الإسرائيلي في الدعوة لقتل العربي، وآخرها أغنية «كش عرب» التي تدعو إلى القتل، ومع ذلك فهي متداولة بشعبية كبيرة في إيران. ولا يختلف كثيراً المتدين وغير المتدين، الإسلامي والعلماني، في إيران، من حيث رؤيته العنصرية للعربي والثقافة العربية. وهذا أمر يطول شرحه، والأمثلة عليه كثيرة، من إيران الشاه إلى إيران اليوم. والدولة الإسلامية في إيران هي دولة ذات آيديولوجيا وطنية شيفونية، فارسية في الأصل، عليها طلاء لامع من قشرة طائفية إسلامية. وإذا أضفت إلى هذه الشيفونية الوطنية العنصريةَ الفارسية تجاه العرب الموثقة تاريخياً، فستجد نفسك أمام هذا الزواج الذي طرحته في بداية هذا المقال: زواج الوطنية الشيفونية بالعنصرية، وهذا هو تعريفي للفاشية. وفي هذا، لا تختلف رؤية إيران للعرب عن رؤية إسرائيل إلا في درجة العنصرية. وإذا أضفت إليها الطائفية، فقد يتساوى الأمر.
فإذا كان هذا الزواج بين الوطنية والعنصرية حدَّد ملامح الفاشية في كل من إيران وإسرائيل، فترى ما هو الوضع بالنسبة لتركيا؟ تاريخ الأتراك مع العرب منذ الإمبراطورية العثمانية حتى اليوم هو تاريخ عنصري يتخذ من الشراكة الإسلامية السنية غطاءً لمشروع استعماري يعتمد على التفوق العرقي. وممارسات الإمبراطورية تجاه من ليسوا من العرق ذاته، من الأرمن إلى العرب، هي ممارسات عنصرية بامتياز. وإذا كانت نازية هتلر قد أدَّت إلى المحرقة تجاه اليهود، فإنَّ الممارسات العثمانية تجاه الأرمن، خصوصاً، لا تقل كثيراً عن جرائم المحرقة. أيضاً مارس العثمانيون سياسات التمييز الوحشية نفسها تجاه الطائفة العلوية في بلاد الشام، وكانوا يأمرونهم، كما يأمر هتلر اليهود، بارتداء علامات مميزة، والمشي على الجانب الآخر من الطريق. وكما أباد الأتراك الأرمن، أبادوا أيضاً أعداداً كبيرة جداً تصل إلى مئات الآلاف من الطائفة العلوية، وهي عملية «جينوسايد» وتطهير عرقي لم يتحدث عنها العالم بعد. النقطة الأساسية هنا هي أن دافع التفوق العرقي لدى الأتراك هو أمر لا جدال حوله تجاه العرب وغير العرب، من أرمن وأكراد وعلويين وعرب.
وبانحسار الإمبراطورية، ودخول تركيا إلى عالم الدولة الوطنية، ظهرت إلى السطح الآيديولوجيا الوطنية التركية مع كمال أتاتورك، وتطورت هذه الوطنية (Turkish Nationalism) لتصل إلى حالة من الشيفونية في عهد رجب طيب إردوغان. وعليه، يكون زواج العنصرية بالوطنية أيضاً واضحاً في الحالة التركية.
ومن هنا، يصح القول إن الفاشية، بنسخها الثقيلة والمخففة، هي الآيديولوجيا التي تجمع الجوار غير العربي، والتي تشكل سياساته الخارجية، وهي أول محركات العدوان. ومن هذا المنظور، لا يكون الجوار غير العربي مجرد أنه مغاير لنا ثقافياً، من حيث الثقافة واللغة والحضارة، بل هو مغاير لنا آيديولوجياً، فهم يقعون في عالم الفاشية التوسعية، بينما نقع نحن في عالم الوطنية التي ما زالت طور التشكل في بعض الدول، كل حسب تاريخ تطور الدولة الوطنية فيه.
والعالم العربي، ثقافة وسياسة، ليس بريئاً من كراهية الآخر أحياناً، كما أنه ليس بريئاً من تهمة العنصرية أحياناً، وكذلك الانغلاق، وربما الاستغناء، ولكن كل هذا في جزر منعزلة في دول في أطوار مختلفة من حيث بناء الهوية الوطنية وبناء الدولة، ولذلك لا نرى تزاوجاً في أي منها بين العنصرية والوطنية الشيفونية التي نجدها في جوار تبرر له فاشيته من منظور التفوق العرقي استباحة أرض الغير. ومع ذلك، فنحن أيضاً ليست لدينا مناعة من الانزلاق في الفاشية، كما انزلق الجوار، وهذا أمر يجب التحسب له ونحن في المراحل الأولى لبناء الدولة الوطنية.
نحن بالفعل أمام حالة عالم عربي يعاني من مشكلات داخلية تخص قوة الدولة وبناء قدراتها، بالطريقة التي أشار إليها الصديق الدكتور عبد المنعم سعيد في مقاله المهم «الأمن الإقليمي من داخل الصندوق»، عالم يحاول بناء قدرات ردع مناسبة تجاه جوار فاشي بدرجات مختلفة.
وبعد أن عرّفنا الجوار غير العربي بأنه جوار فاشي، فماذا بعد؟ وما تبعات تعريف كهذا؟ بداية، لسنا نحن في ثلاثينات القرن العشرين، وغزو موسوليني للحبشة، وما بعدها من مواجهات داخل القارة الأوروبية، وما وراءها، أدت إلى حربين عالميتين للقضاء على الفاشية، وفتح الأفق أمام الرأسمالية بصفتها نظاماً اقتصادياً، والديمقراطية الليبرالية بصفتها نظاماً سياسياً.
السياق العالمي بين عالم الأمس وعالم اليوم مختلف، ورؤية هذا العالم وتصنيفه لدول جوارنا غير العربي ليس بالوضوح الذي رسمته هنا، فقد يتفق الغرب مثلاً على فاشية النظام الإيراني، ويراه نظاماً مغايراً معطلاً لحالة المجتمع المدني العالمي. فبينما أدت الحداثة الأوروبية، والنظام الرأسمالي المصاحب، إلى حالة العولمة والمجتمع المدني العالمي، تمثل إيران من خلال دعمها لحركات التطرف والإرهاب ما هو نقيض للمجتمع المدني العالمي، وتقدم مجتمع الجماعات الإرهابية بديلاً، فهناك مجتمع عالمي مدني وآخر همجي عالمي أيضاً من الناحية الأخرى. ولكن الغرب ذاته لا ينظر إلى تركيا أو إسرائيل بالمنظار نفسه الذي طرحته في بداية المقال، إذ يتراوح الموقف الغربي تجاه تركيا من إيجابي يراها جسراً بين الغرب والشرق، وآخر يراها ضرورة استقرار إقليمي، وثالث يراها داعمة لجماعة «الإخوان المسلمين» التي خرجت معظم جماعات التطرف من عباءتها، وربما هذا الدافع هو الذي يحرك الأحلام الإمبراطورية لدى إردوغان في سوريا وليبيا. ومن هناك، يكون التحدي العربي هو توضيح الجانب الفاشي في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية.
أما إقناع الغرب بفاشية النظام في إسرائيل وعنصريته تجاه عرب الداخل وعرب الخارج، فتلك معركة صعبة، تحتاج ليس فقط إلى إقناع الغرب وحده، بل إقناع بعض العرب بتلك الفاشية الإسرائيلية.
إنَّ محاولة إنزال هذه الدول الثلاث من على سلَّم الفاشية هو أمر صعب، ويدخلنا في صراع حضاري وثقافي يزيد المسألة تعقيداً، وذلك لأن التخلي عن الآيديولوجيات السيئة لا يأتي طوعاً، كما كان الحال مع معسكر الفاشية في الحرب العالمية الثانية.
مهم أنْ ندرك أن تطور السياق العالمي منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، وقدرة مجموعة من الدول على ضبط إيقاعه، هما في انحسار، فقد كان العالم محكوماً في فترة ما قبل الحرب العالمية بدول صناعية قوية، مثل إيطاليا واليابان وألمانيا وروسيا وبريطانيا، وإلى درجة ما الولايات المتحدة. وهذا العالم متعدد الأقطاب انحسر إلى قطبين بعد الحرب العالمية الثانية، ثم إلى عالم ينظمه قطب واحد بعد نهاية الحرب الباردة، وربما نتَّجه الآن إلى عالم لا أقطاب فيه؛ فقط به قوى إقليمية، كالهند والصين في آسيا، وأميركا في محيطها الأميركي والآسيوي، وألمانيا وبريطانيا في أوروبا، وإسرائيل وتركيا وإيران في الشرق الأوسط.
وإذا نظرنا من أعلى منذ بداية ظهور الفاشية إلى علاقة التطور الصناعي بالفاشية بصفتها آيديولوجيا، فليس بمستغرب أنْ تصلَ الفاشية في منطقتنا في وقت متأخر، فإيران وتركيا وإسرائيل جميعها قريبة الشبه بأوروبا بدايات القرن العشرين، من حيث التطور السياسي والاجتماعي والصناعي؛ الشرق الأوسط اليوم يعيش في بدايات القرن العشرين في أوروبا، هذا إن كنت كريماً في تصنيفه.
إدراك هذا الأمر ضروري بصفته بداية الحديث عن الأمن الإقليمي العربي. فلنبدأ بتعريف مساحات عدم الأمن، ومن هم اللاعبون الذين يمثلون تهديداً للأمن القومي العربي، وما هي آيديولوجيات هذا الجوار التي تحركه نحو العدوان، وعلى أي أساس يمكننا التعاطي مع هذا التهديد، سواء بالحوار أو بتوازن القوى والردع. وإذا كان هذا تعريفي للجوار الفاشي، ورؤيتي لما يجري في منطقتنا، وتأثيره على الأمن القومي العربي، فإنَّ هذا لا يمنع تعريفات أخرى من منطلقات أخرى. المهم أنْ نبدأ في رسم الصورة بوضوح متفق عليه، فلا يمكن لعمل عربي مشترك أن يبدأ ونحن مختلفون على تعريف التهديد، وتحديد منطلقاته... وللحديث بقية.