مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

صراع نموذجين

التصويت الروسي الأخير لمد مدة الرئاسة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليستمر في حكم روسيا حتى عام 2036، من أوضح العلامات على انتصار النموذج الصينيّ المبنيّ على شرعية الإنجاز (لا الديمقراطية) على النموذج الأميركي.
وتلك كانت معركة أولى داخل واحدة من الدول الخمس الكبار في مجلس الأمن الدولي. أما المعركة الثانية بين النموذجين الصيني والأميركي والتي لم تُحسم بعد، وربما تقرر مصير النموذجين، فتتمثل في الصراع على روح هونغ كونغ، التي يريدها بعض أهلها ومعهم بريطانيا وأميركا نظاماً ديمقراطياً، وتريدها الصين جزءاً من النموذج الصيني. فهل نحن أمام مرحلة ينتصر فيها النموذج الصيني للحكم على النموذج الديمقراطي الغربي؟ وهل من أمثلة توضح أي النموذجين أكثر رواجاً دونما تحيز لأيٍّ منهما؟ القارئ العربي قد لا يذكر من حكام النموذج الصيني في منطقتنا إلا الرؤساء الذين استمروا لأطول فترة في الحكم مثل معمر القذافي الذي حكم ليبيا لمدة اثنين وأربعين عاماً، أو حسني مبارك الذي حكم مصر لمدة 30 سنة، وبشار الأسد الذي يحكم سوريا منذ عشرين عاماً، ولكنّ أمثلة من هذا النوع من طريقة الحكم عديدة في عالمنا المعاصر، وليست حكراً على عالمنا العربي، لدرجة أنها بدت تمثل ظاهرة عالمية جديرة بالنقاش والتحليل. كما أن هناك العديد من الرؤساء الذين يبدون كأنهم ضمن نظام ديمقراطي رغم أنهم «صينيون» تماماً. فمثلاً بنيامين نتنياهو يحكم في إسرائيل (الديمقراطية) منذ 2009 حتى الآن، أحد عشر عاماً، وحكم من قبلها ثلاثة أعوام منذ 1996 إلى 1999، أي أنه حكم في المجمل لمدة 14 عاماً وما زال حكمه مستمراً. أعرف ملاحظات القارئ حول إعادة انتخابه في نظام ديمقراطي، ولكن وجه حاكم إسرائيل منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي حتى اليوم هو بنيامين نتنياهو. في مقابل نتنياهو على الضفة (الغربية) الأخرى نسخة طبق الأصل في حكم الرئيس محمود عباس، رئيس فلسطين منذ عام 2005 حتى اليوم (أي خمسة عشر عاماً حتى اليوم).
هناك جيل كامل لا يعرف لإيران مثلاً إلا وجهاً واحداً هو المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يحكم إيران فعلياً منذ وفاة آية الله الخميني حتى اليوم، وكان علي خامنئي أيضاً رئيساً للجمهورية الإسلامية منذ عام 1981 إلى عام 1989.
أما تركيا فمنذ فترة طويلة لا نرى فيها إلا وجه رجب طيب إردوغان الذي أصبح رئيس تركيا منذ عام 2014 حتى اليوم، وقبلها كان رئيساً للوزراء مند عام 2003 إلى 2014، أي إنه يحكم تركيا فعلياً منذ ما يقرب من سبعة عشر عاماً، وما زال مستمراً. وطريقة حكم إردوغان وتابعيه من نوابه في تركيا أشبه بتبادل المقاعد بين ميدفيدف وبوتين في روسيا، أو أقرب إلى استمرار حكم نتنياهو في إسرائيل والذي يبدو ديمقراطياً من حيث الإجراءات ولكنه «صيني» في جوهره. وثلاثتهم ليس لهم أي إنجاز حرب أو سلام يبرر طول مدة الحكم على غرار الجنرال شارل ديغول في فرنسا أو الجنرال دوايت آيزنهاور في أميركا، وهما قائدا حرب لهما شرعية تاريخية. فإردوغان ونتنياهو ليس لهما تاريخ أسري أرستقراطي مثلاً، أو تاريخ أو انتصارات حربية كجنرالات مثل ديغول وآيزنهاوز، فقط هي دهاليز السياسة وشلل المصالح المغلقة التي تقترب إلى نظام المافيا السياسية التي مكّنتهم من الحكم. وهذا الجانب المافيوي وشِلل المصالح أيضاً يمثل جزءاً لا يتجزأ من النموذج الصيني للحكم.
هذه مجرد أمثلة محدودة لتوضيح أن النظام الصيني المغلق بتنوعاته وتجلياته المختلفة هو أكثر انتشاراً من النموذج الديمقراطي. وهناك العديد من الأمثلة لحكام هذا النموذج يمكن للقارئ البحث عنها حتى لا يزدحم المقال بالمعلومات والأدلة وتغيب الفكرة الرئيسية. فهناك أمثلة أفريقية مثل بول بايا الذي يحكم الكاميرون منذ عام 1982، أي ما يقرب من أربعين عاماً. أما في آسيا فهناك حالة الرئيس هون سن الذي يحكم كمبوديا منذ الثمانينات أيضاً، وأميركا اللاتينية كحالة دانييل أورتيغا في نيكاراغوا... إلى آخر قائمة حكام النموذج الصيني الذين يمثلون أغلبية في العالم اليوم.
انتصار النموذج الصيني على النموذج الأميركي يحتاج إلى دراسة أكثر شمولاً، وتحليلاً أكثر صرامة لمعرفة الأسباب المحرّكة لهذه الحالة العالمية، فهل هي حالة عزوف عن السياسة والاكتفاء برجل قوي يدير شؤون البلاد، أم هي حالة إرهاق من تكلفة الانتخابات المستمرة، أم مجرد سيطرة لعالم الدعاية، الذي يبدو معه النموذج الصيني كأنه نموذج ديمقراطي في أبهى صوره كحالة بنيامين نتنياهو في إسرائيل؟ النقطة المثيرة للاهتمام أيضاً هي معركة هونغ كونغ على خطوط التماسّ أو جبهة القتال في الحرب الباردة بين النموذجين. ولا يكن عندك شك في أنها حرب باردة تتشكل أمام أعيننا. فالمتابع لتصريحات الخارجية الأميركية من فرض عقوبات على أعضاء الحزب الحاكم في الصين إلى الدعم الأميركي لقوى الديمقراطية في هونغ كونغ، يدرك معنى مؤشرات الحرب الباردة بين النموذج الأميركي والنموذج الصيني. وقد كتبت مقالين سابقين عن النموذج الصيني كتحدٍّ للنظام الديمقراطي في هذه الصحيفة من حيث شرعية الإنجاز كقاعدة أساسية لقبول نظام الحكم، ولكن التركيز في هذا المقال على الصراع بين النموذجين ومدى انتشار تطبيقهما في بلدان أخرى.
كان الغرب متردداً في دخول معركة هونغ كونغ خلال العامين الماضيين، ولكننا نرى اليوم أن بريطانيا تمنح الجنسية لأبناء هونغ كونغ الذين كانوا فقط يحملون تصاريح إقامة في بريطانيا، ونرى دعماً أميركياً أكثر جرأة لقادة التغيير في هونغ كونغ.
إن معركة هونغ كونغ هي المعركة الفاصلة في حرب النموذجين، والتي يبدو أن الانتصار فيها بحكم الجغرافيا قد يكون من نصيب النموذج الصيني.
وبتزايد قوة الصين الاقتصادية وكذلك التكنولوجية سيصبح النموذج الصيني أكثر قبولاً خصوصاً في أجواء لم تعد للقيم الغربية ذات البريق وذات الوهج. فتراجع الغرب عن دعم نظامه القيمي المتمثل في نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك شراكات الغرب للديكتاتوريات المبنية على المصالح لا القيم، كل هذا يؤدي إلى انتصار نسبي للنموذج الصيني. فهل ينتقل العالم إلى الحقبة الصينية كبديل للحقبة الأميركية التي تمثل النموذج الغربي للحكم؟ الإجابة حتى الآن ومن خلال انحسار الديمقراطية في العالم تشير إلى نعم.
المواجهة بين النموذجين الصيني والغربي، في سياق حرب باردة تتشكل ربما تحدد ملامح عصرنا الحديث ولفترة طويلة.