داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

أميرة الألماس التي عصفت بهدوء اليابان

حين بدأ تفشي فيروس «كورونا» في اليابان، قادماً من الصين في يناير (كانون الثاني) الماضي، كانت مخاوف الحكومة اليابانية والشعب، ليست من استفحال المرض وصعوبة السيطرة عليه، ولكن الخشية من احتمال تأجيل إقامة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في أواخر شهر يوليو (تموز) الحالي في طوكيو، وقد تأجلت فعلاً إلى العام المقبل!
أول إصابة سُجلت في طوكيو كانت في 3 يناير الماضي لشاب صيني بلغ من العمر 30 عاماً كان قد سافر إلى مدينة ووهان الصينية، المعقل الأول لـ«كورونا»، في إجازة قصيرة زار خلالها سوقاً للمأكولات البحرية، والتقط هناك الفيروس.
ولأن لليابانيين أسلوبهم المتفرد في الحياة والسلوك الاجتماعي، فقد أعلن رئيس الوزراء شينزو آبي، أن المواطنين رفضوا إجراء اختبارات متعددة للتأكد من إصابتهم بالوباء، مشيراً إلى أن الحكومة لا يمكنها قانونياً إرغامهم على القيام بتلك الاختبارات.
في فبراير (شباط) الماضي، شوهد سائق سيارة أجرة ياباني في محافظة كاناغاوا قريباً من طوكيو يضحك بصوت عالٍ، لأن حماته البالغة من العمر 80 عاماً توفيت بفيروس كورونا، وكانت أول مواطنة يابانية ضحية الوباء. لكن الكارثة الأكبر التي شهدتها اليابان كانت بعد أيام قليلة، حين تم اكتشاف 3011 حالة إيجابية على متن سفينة الركاب «أميرة الألماس» السياحية البريطانية الراقية التي تم بناؤها في مدينة ناكازاكي بواسطة شركة «ميتسوبيشي» للصناعات الثقيلة. وبدأت الدولة تقرع أجراس الإنذار، فقد منعت القادمين من الصين وكوريا الجنوبية وإيطاليا وإسبانيا وإيران من دخول اليابان.
نحن الآن في اليابان، حيث «يقدسون» فنون الدفاع عن النفس مثل الجودو والكاراتيه ومصارعة السومو القديمة، ولذلك أُعلن الحداد العام بعد وفاة خمسة رياضيين في يوم واحد في أحد النوادي الذي قررت الحكومة إغلاقه، ورفض الأهالي ذلك. وحذر محافظ طوكيو بوريكو كويكي، المواطنين، من أنهم إذا لم يتعاونوا مع الحكومة، فإنها ستضطر إلى اعتبار العاصمة طوكيو مدينة مغلقة! وأدى التحذير «الناعم» إلى ما أطلقوا عليه تسمية «شراء الذعر»، وهو التهافت على الأسواق لشراء كل الأغذية المتوفرة، ونشرت الصحف في اليوم التالي صوراً للأرفف الفارغة في الأسواق الكبرى. لقد فعل اليابانيون ما نفعله نحن يومياً كلما عطس مسؤول في التجارة الداخلية. وربط رئيس الوزراء الياباني بين التفشي الانفجاري للوباء واحتمال «توقف الحياة التام» في هذه المرحلة الحرجة. ومن سوء حظ شينزو آبي أنه بعد يوم واحد من التحذير تم إبعاد زوجته عنه ضمن إجراءات التباعد الاجتماعي التي أطلقوا عليها هناك تسمية «الحرمان النسبي».
لم تسبق اليابان دول العالم في كثير من المخترعات والابتكارات فقط، ولكنها سبقت الكل في «ثقافة» ارتداء الكمامات. كانت البداية قراراً لوزارة الصحة اليابانية منذ أكثر من نصف قرن بإلزام المصابين بالإنفلونزا أو الزكام بارتداء الكمامات، لكي لا تنتقل العدوى إلى الأصحاء. أينما تذهب في الشوارع، أو دور السينما، أو الأسواق، أو القطارات والطائرات والمطاعم والمقاهي والمصانع تواجهك الكمامات. حتى أطفال المدارس المصابين بالبرد تُلزمهم الإدارات التعليمية بارتداء الكمامات الصحية.
ولذلك عندما فاجأت الصين العالم في أوائل العام الحالي بانتشار فيروس «كورونا»، وتساقط الضحايا في الشوارع، وعلى الأرصفة في مشاهد فظيعة، ارتدت اليابان بدءاً من الإمبراطور إلى طفل الروضة الكمامات حتى وإن كانوا داخل المنازل. وعلى الرغم من تساقط الضحايا بالمئات يومياً في الصين وكوريا، رفضت بلاد الشمس المشرقة «حكاية» الحجر الصحي، ومنع التجول، أو إغلاق المطاعم والمقاهي وصالونات الحلاقة، أو إيقاف حركة الطيران والقطارات ومترو الأنفاق، وتعطيل الدراسة أو الوزارات. ظلت مرافق كثيرة تعمل، لأن الشعب الياباني يرفض إيقاف عجلة الحياة.
وإذا كان الشعب الياباني رفض خطط الحكومة لمنع التجول أو إغلاق المدن، أو حتى إلزام المواطنين بإجراء اختبارات طبية للتأكد من سلامتهم، فإنه الشعب نفسه الذي وافق على قوانين غريبة سائدة في البلاد، منها قانون منع السمنة عن طريق منع تجاوز حجم الخصر عن 85 سم للرجال فوق سن الأربعين! وإلا فإن السلطات تُرغم المخالفين على الالتزام بنظام غذائي قاسٍ للتنحيف. وكان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قد فرض قانوناً (أو تعليمات) في التسعينات من القرن الماضي على كبار رجال الدولة من عسكريين ومدنيين ووزراء يقضي بممارسة الترشيق الإلزامي، أو الإعفاء من المنصب. وكان التلفزيون العراقي يعرض مشاهد من هرولة الوزراء وكبار المسؤولين في حدائق معينة، وبينهم عدد من المسنين. وفي هذا تساوى العراقيون واليابانيون، بعكس ما قلته في كتاب نشرتُه في سنوات الحصار الاقتصادي الجائر على العراق، وعنوانه «بلد صاعد.. بلد نازل». وحدث أن تم تنظيم ندوة عن الكتاب في نقابة المهندسين العراقية قبل الاحتلال الأميركي، وسألني أحد الحاضرين عن اسم البلد الصاعد واسم البلد النازل، فأجبته: طبعاً العراق هو البلد الصاعد. وضجت القاعة بالضحك. فقلت للحضور: ماذا تنتظرون أن أقول وأكثر الجالسين في الصفين الأمامين في الندوة من الأجهزة الأمنية! وتوقف الضحك.
بالإضافة إلى قانون منع السمنة، فإن اليابانيين ممنوعون من الرقص في الملاهي الليلية التي تقل مساحتها عن 700 متر مربع. كما أن الرقص ممنوع قطعياً بعد منتصف الليل. وهذا هو سبب عزوف السياسيين العراقيين الحاليين عن السفر إلى اليابان. زاروا كل دول العالم ولم يصلوا إلى اليابان، فالبلد الذي يمنع الرقص ليلاً، كما يقول أحد النواب، لا يستحق الزيارة. وجهة نظر نحترمها لأنها تتفق مع تشجيع الفن. وثالث قانون عجيب هو منع تحضير الكحول في المنازل فوق نسبة واحد في المائة؛ فالشعار الذي عممته اليابان هو أن الكحول يُشترى من الحانات، ولا يُصنع في البيوت. ورابع قانون غريب هو أن القضاء يغرمك ما لا يقل عن ألفي دولار، أو السجن لمدة عام كامل، إذا أتلفت أوراقاً مالية، أو رميت النقود في الشارع! الحمد لله فنحن نرمي النقود على الراقصات!
بعد الحرب العالمية الثانية، أعاد اليابانيون بناء بلدهم. ثم بحثوا عن مكامن الجذب السياحي، واكتشفوا أن طريقتهم المختلفة في الحياة هي السر. وقالوا نتمسك بهذا الكنز. والكنز: لغة معقدة وأزياء غريبة ومعابد زاهية وزلازل وبراكين وأعشاب بحرية وعيدان خشبية لالتهام الأرز، مع تيسيرات في الحجوزات والنقل والتأشيرات والحدود. فالسياح لا يركبون الطائرات، ويعبرون البحار لرؤية العمارات، أو للوقوف في طوابير الانتظار أمام موظفي الجوازات المتجهمين في مطارات الدول التي تعتقد أنها جنة الله على الأرض! ولذلك يشعر السائح أن كل الدولة تنتظر تشريفه، وأن عاملة الفندق التي تستقبله بابتسامة ساحرة واهتمام خاص، إنما تعبر بذلك عن امتنان اليابان، إمبراطوراً وشعباً، لقرار سيادته بالسفر إلى بلادهم.
وهم يعتبرون السائح زبوناً، أي أنهم يريدون منه أن يكرر زيارته. وأن يأتي في المرة المقبلة ومعه أسرته. وأن يأتي ممتلئ الجيوب، ففي بلادهم الكثير مما يستحق المشاهدة والاستمتاع. إنهم بذلك يُكفّرون عما فعلوه طوال قرنين ونصف القرن حين أوصدوا أبواب اليابان أمام أي أجنبي، ومنعوا سفر أي ياباني إلى الخارج.
وحين تتجول في شوارع طوكيو، أو أي مدينة يابانية أخرى، تجد أن كل اليابانيين يحترمونك، وهم يتعمدون إشعارك بأنك شخص مهم ومحترم. كيف لا وأنت قررت زيارة بلدهم وشراء بضائعهم وتذوق طعامهم؟ ثم إن هناك سبباً وجيهاً آخر هو أن أنفك لا يشبه أنوفهم... وهذا يعني أنك ضيف أجنبي يجب الترحيب به، وإسعاده، وإقامة علاقة شخصية محترمة معه.
جائحة «كورونا» كارثة عالمية لا تقتصر على قارة معينة أو دولٍ محددة. سيأتي الوقت حتماً الذي يصبح فيه الحديث عن هذه الجائحة ذكريات حزينة عن أيام صعبة وقاسية.