كان لمسألة العداء للسامية دورها في دفع الناخبين داخل بريطانيا بعيداً عن حزب العمال. في ظل قيادة جيرمي كوربين، راوغ مسؤولو الحزب في مسألة تطهير صفوف الأصدقاء والرفاق من اليسار المتطرف.
من ناحيته، أدرك خليفة كوربين، كير ستارمر، المحامي المعني بحقوق الإنسان والذي تميز بمكانة رفيعة قبل تحوله إلى العمل السياسي، منذ الوهلة الأولى أن حزبه أمره انتهى، إلا إذا تحرك بقوة وحسم ضد هذا التوجه الضار بالحزب. وكان أول إعلان صدر عنه لدى انتخابه رئيساً لحزب العمال في الرابع من أبريل (نيسان) أنه «سيقضي على هذا السم من جذوره». ولحسن الحظ، يثبت ستارمر يوماً بعد آخر أنه أهل للمهمة ـ ولدور القيادة بوجه عام. واليوم، وجد بوريس جونسون، رئيس الوزراء القادم من حزب المحافظين، نفسه أخيراً في مواجهة معارضة يعمل لها ألف حساب.
وعليه، فإنه عندما أقدمت منافسته على زعامة الحزب، ريبيكا لونغ بايلي، التي منيت بالهزيمة في الانتخابات والمتحدثة الرسمية باسم الحزب لشؤون التعليم، وأحد أشد المتحمسين لكوربين وأفكاره، على إعادة التغريد لمقابلة صحافية جرت مع الممثلة والناشطة ماكسين بيك، تضمنت في ثناياها ادعاءات لا تمت للواقع، وجد ستارمر نفسه مضطراً للاختيار بين المصالحة داخل الحزب ومبادئه.
وفي إشارة إلى قتل الشرطة لجورج فلويد في مينيابوليس، ادعت بيك أن «التكتيكات التي استخدمتها الشرطة في أميركا، والمتمثلة في الضغط بالركبة على رقبة جورج فلويد، جرى تعلمها خلال ندوات عقدت مع الخدمات السرية الإسرائيلية».
هذه المرة، لم يحدث أدنى تأخير من جانب مكتب زعيم الحزب. ورغم أن لونغ بايلي سارعت إلى النأي بنفسها عن نظرية المؤامرة التي أطلقتها صديقتها، فإنها رفضت حذف التغريدة الأصلية. ورداً على ذلك، سارع ستارمر إلى طردها من مجلس وزراء الظل الذي يترأسه. من جانبهم، ندد أنصار كوربين بالزعيم الجديد، متهمين إياه بإعادة فتح جروح قديمة، لكنه كان محقاً في موقفه. في الواقع، لطالما تخفت الشخصيات القيادية الرفيعة داخل حزب العمال خلف كلمات وأعذار مراوغة لتبرير سماحهم لهذا السم بالانتشار في أرجاء الحزب.
وفي الوقت الذي كان النصر حليف ستارمر في أول معركة مهمة يخوضها، فإنه جاء على حساب الدخول في حرب علنية مع جناح اليسار داخل حزبه ومع اتحاد «يونايت يونيون» التجاري القوي الذي ساند لونغ بايلي في مساعيها للوصول إلى زعامة الحزب.
وبخلاف كونه أمراً مقيتاً من الناحية الأخلاقية، فإن فشل حزب العمال في التعامل مع العداء للسامية يأتي من داخل جزء من الحزب يلقي باللوم على الغرب ـ خصوصاً الأميركيين والإسرائيليين ـ عن معظم مشكلات العالم وأوجاعه. وكان من شأن ظهور حزب العمال داخل بريطانيا باعتباره حزباً يفتقر إلى الحس الوطني، تكبيد الحزب ثمناً فادحاً.
الحقيقة أن كوربين لم يتعافَ قط من إخفاقه في التنديد باستخدام روسيا أسلحة كيماوية في محاولة فاشلة لقتل منشق في ساليسبري. وفي أعين أنصار الحزب من أبناء الطبقة العاملة في مدن شمال وقلب إنجلترا، كان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وظهر أمامهم زعيم لحزب العمال يفضل دونما تفكير في الإنصات لأعذار هشة لدولة معادية عن عمل إرهابي، بدلاً عن الوقوف في وجهها دفاعاً عن بريطانيا.
في المقابل، نجد أن ستارمر لا يرى العالم على النحو ذاته. والملاحظ أنه في خضم الجدال الدائر حول حملة «حياة السود مهمة»، والتي تشكل منطقة حساسة أمام العناصر المعتدلة من تيار يسار الوسط، تصرف ستارمر بعقلانية واتخذ موقفاً تقدمياً، لكنه في الوقت ذاته وطني وملتزم بالقانون. وأقبل برحابة صدر على الجلوس على ركبته دعماً للأصوات المناهضة للعنصرية، لكنه في الوقت ذاته دافع عن حكم القانون على طول الخط، وشدد على أنه لا ينبغي إسقاط أي تمثال دون تصويت ديمقراطي، وأكد على ضرورة محاسبة المخربين.
في الواقع، بمقدور غالبية الناخبين البريطانيين العيش بشكل طبيعي دون اختلاف يذكر بعد إزالة تماثيل تجار العبيد الممقوتين أو الجنرالات الاستعماريين من الساحات العامة، لكنك بالتأكيد تتجاوز خطا أحمر عندما تقدم على تشويه صور زعيم بحجم وينستون تشرشل.
وبعد ثلاثة شهور له في مهمته الجديدة، نجح ستارمر في تحقيق معدل رضا عام عن أدائه يبلغ 31 في المائة خلال استطلاعات الرأي، ليكافئ بذلك أفضل مستوى بلغه توني بلير على مدار فترة وجوده في صفوف المعارضة. الواضح أن الناخبين يرون أن ستارمر يبدو ويتصرف مثل رئيس وزراء محتمل، رغم أنهم لا يزالون يبدون ميلاً أكبر تجاه جونسون.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
بريطانيا: «العمال» يزاحم «المحافظين»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة