جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا: «بريكست» يعود من النافذة

رغم استفحال أزمة الوباء الفيروسي، واستحواذها على اهتمامات الحكومة والإعلام والمواطنين، وما تسببت فيه من إرباك لمناحي الحياة كافة، عاد «بريكست» متسللاً، من النافذة، مؤخراً، إلى بريطانيا، وبدأت تطورات أخباره تحتل حيّزاً ملحوظاً في وسائل الإعلام، وليضع الحكومة البريطانية في مواجهة أخرى مع الاتحاد الأوروبي، في وقت تتراكم فوق ظهرها أثقال أزمات كثيرة مؤرقة.
في يوم 31 من شهر يناير (كانون الثاني) من هذه السنة، خرجت بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي، لكن الخروج النهائي حُدّد له موعد في نهاية عام 2020. الفترة من نهاية يناير وحتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) تعدّ فترة انتقالية يتم خلالها التفاوض بين الطرفين لتحديد طبيعة العلاقة التجارية المستقبلية. وحددت نهاية يونيو (حزيران) الحالي موعداً نهائياً لتلك المفاوضات. خلال الفترة الانتقالية تستمر الأمور على ما كانت عليه من قبل، من دون تغيير حتى حلول الموعد المتفق عليه. وفي حالة عدم الوصول إلى اتفاق بنهاية شهر يونيو الحالي، وعدم تقدم الوفد البريطاني بطلب رسمي لتمديد فترة الخروج المقررة، تفقد بريطانيا حقها في التمديد. لكن الحكومة البريطانية لا تبدي اهتماماً بذلك، استناداً إلى ما جاء على لسان رئيسها السيد بوريس جونسون، في وقت سابق، بتأكيده أن بلاده لن تتقدم بطلب تمديد، وستغادر الاتحاد نهائياً في نهاية العام، حتى من دون الوصول إلى اتفاق.
الرياح هبّت في اتجاه معاكس لما تشتهي لندن وبروكسل، باقتحام الأزمة الوبائية للمشهد، فجأة، وبلا سابق إنذار، وقلبه رأساً على عقب. وأدى ذلك، إلى وضع الحكومة البريطانية وحكومات الدول الأعضاء في الاتحاد، في حالة طوارئ دائم، وركن «بريكست» مؤقتاً على الرّف.
في مايو (أيار) الماضي، بدأ «بريكست» يطل برأسه، من جديد، تدريجياً في وسائل الإعلام. وها هو، حالياً، يزيد في تضيّق الخناق على حكومات تعاني من الاختناق منذ مارس (آذار) الماضي.
وفقاً للتقارير الإعلامية، هناك تقريباً 10 نقاط، بين الطرفين، في قضايا وسياسات متعددة، لم يتم الوصول إلى حلول لها. في مقدمتها الاختلاف في قضية التحاصص في الصيد البحري في المياه البريطانية. حيث يرى الاتحاد أن لا ضرورة لإحداث تغييرات في الحصص السابقة، في حين يرى البريطانيون أن الأمر صار مختلفاً بخروج بلادهم من الاتحاد. المسألة الأخرى حرص بريطانيا على قطع كل ما يشدّها من خيوط تلزمها بتطبيق قوانين وتشريعات صادرة عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي البرلمانية أو القضائية. أربع جولات من المفاوضات، حتى الآن، عملت كل جولة منها على توسيع، وليس تقريب، هوة الخلاف بين الطرفين.
من جهته، يحرص الاتحاد الأوروبي على الوصول إلى «اتفاق يغطي كل شيء، خاضع لإشراف نظام حوكمة صارم، والالتزام بمعايير اللعب بندية على مستوى العمالة، والبيئة، والمساعدة التي تقدمها الدول للشركات». ما يلفت الاهتمام أن مطالب الاتحاد لم تأخذ في اعتبارها ما أحدثه الوباء من تغييرات في مواقف الدول الأعضاء نفسها، حيث بدأت أصوات ترتفع مطالبة رئاسة الاتحاد بالمرونة فيما يتعلق بنظام مساعدة الدول الأعضاء للشركات، لتتمكن من التدخل، والعمل على إنقاذ الشركات المتضررة من تداعيات الوباء. حكومة النمسا تطالب حالياً بإلغاء النظام كليّة.
نسبة ملحوظة من المعلقين السياسيين في الساحة الإعلامية يصطفون وراء تكهنات بعدم رغبة بريطانيا في الوصول إلى اتفاق، لتتمكن من الخروج من الاتحاد، من دون أي التزامات أو اتفاقات، وتغلق الأبواب وراءها نهائياً. ويجادلون بأن الفريق الذي يشغل مكاتب 10 داوننغ ستريت ينتمي سياسياً إلى تيار شعبوي، يميني، مناوئ لأي ارتباط بالاتحاد الأوروبي. وأن رئيس الحكومة وأعضاء فريقه الوزاري والاستشاري يدفعون نحو تحقيق هذا الهدف، وبسرعة. وأنهم لا يترددون في إلصاق تهمة الخيانة بكل من يطالب ولو بتمديد فترة الخروج إلى ما بعد نهاية العام. ويضيف أولئك المعلقون، أن بعض أعضاء الفريق الاستشاري يرون أن أزمة الوباء الفيروسي توفر فرصة يجب انتهازها لتحقيق هذا الهدف، وأن ما قد يترتب على الخروج من دون اتفاق من تداعيات وأضرار للاقتصاد البريطاني سوف يختفي في زحام الضجيج الذي أحدثته الأزمة الوبائية، وما سببته من إرباكات وأضرار.
إن صحّت هذه التكهنات، فهذا يعني أن الشركات البريطانية ستجد نفسها في مواجهة أزمة أخرى تضاف إلى ما سبّبه الوباء الفيروسي، حتى الآن، من أضرار وخسائر جسيمة، تتجسد في اضطرارها إلى الخضوع لسلسلة طويلة من ترتيبات وإجراءات وضوابط جديدة، تزيد في مضاعفة معاناتها، في منتصف أزمة كساد تجاوزت حدتها أزمة عام 2008.
معلقون آخرون، يقفون على الضفة المقابلة، يرون أن المفاوضات بين الطرفين سيطر عليها، منذ البداية، جو من عدم الثقة. وبالتالي، فإنه لا جدوى من تمديد الفترة الانتقالية المقررة، إذا عملت على تطويل حالة الشلل الحالية في المفاوضات.
الموعد النهائي يقترب بخطى مسرعة، ولم يبد من الطرفين، حتى الآن، ما يدل على رغبتهما المشتركة في التخلي عن التصلب على أمل الوصول إلى اتفاق نهائي.