نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

الإصلاح والفوضى والناس

الشرطة هي الوسيلة الأولى والأساسية للحد من أعمال الشغب والعنف في أي مجتمع من المجتمعات، ولسوف تواصل «المسألة الشرطية» فرض حالة الإزعاج المستمرة على المجتمعات المدنية في كل مكان. لكن وفي حالة الفوضى المجتمعية، ومع غياب دور الشرطة، سوف يضطر المواطنون إلى اللجوء لفرض الأمن بوسائلهم الشخصية الخاصة، الأمر الذي يشيع مزيداً من الفوضى وأعمال العنف المتفشي كمثل الأوبئة، غير أن ضمان عدم تحول قوة الشرطة إلى قوة إجرامية في ذاتها، وإلحاق الأذى بالأشخاص والمواطنين المفترض بها توفير الحماية الكاملة لهم، هو من المهام العسيرة بكل المعاني. وكما قال الشاعر الروماني القديم جوفينال: «فإلى مَن نكلُ حراسة الأوصياء؟».
باتت الولايات المتحدة الأميركية تواجه هذا التساؤل المزعج بصورة مؤلمة عميقة في الآونة الأخيرة، إذ أثارت حادثة القتل الوحشية للمواطن الأسود جورج فلويد من مدينة منيابوليس على يد ضابط الشرطة الأبيض ديريك تشوفين موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية في أرجاء البلاد كافة لم تشهد الولايات المتحدة مثيلاً لها من قبل. وكانت كثير من الاحتجاجات تشوبها أعمال عنف وشغب مشهودة من الجميع. ويطالب المتظاهرون الذين باتوا يتمتعون بدعم شعبي أميركي غير مسبوق بوضع حد نهائي للعنصرية لدى قوات الشرطة الأميركية، مع فرض القيود الصارمة على الوحشية التي تتسم بها أعمال الشرطة، والتخفيض العام في ميزانية وصلاحيات مختلف إدارات الشرطة في البلاد.
بيد أن التساؤل الأكبر والأهم المعني بالمسألة الشرطية في الولايات المتحدة بات يلوح في أفق هذه الحادثة الأخيرة، وما سواها من حوادث مماثلة. ليس هناك نقص ملموس في الاستراتيجيات أو الإجراءات المعنية بالحد من وحشية تصرفات رجال الشرطة -على سبيل المثال، تعيين رجال الشرطة من مختلف الخلفيات الإثنية والأصول العرقية في البلاد، الأمر الذي يسهل كثيراً من ملاحقة رجال الشرطة على إساءة المعاملة أو جنوح السلوكيات، مما يسهل بدوره أيضاً من فصل ضباط الشرطة السيئين، والحد من وصول قوات الشرطة إلى الأسلحة والمعدات ذات الاستخدام العسكري، وليس المدني. ثم لدينا أيضاً مسألة التدابير الاقتصادية. ومن المؤكد لدى الجميع أن حكومة الولايات المتحدة باتت تنفق مزيداً من الأموال حالياً على قوات الشرطة بأكثر مما كان معتاداً في السابق، إذ يشكل الإنفاق الحكومي -على مستوى الولايات والمحليات- على قوات الشرطة نسبة تبلغ نحو 0.67 في المائة من إجمالي اقتصاد البلاد، وهي نسبة تفوق بكثير النسبة المسجلة سابقاً في ستينيات القرن الماضي على سبيل المثال.
شهدت الولايات المتحدة انخفاضاً كبيراً في معدلات الجريمة على مدى العقود الثلاثة الماضية، إذ سجلت معدلات جرائم القتل انخفاضاً إلى النصف منذ عام 1993. كما انخفضت معدلات الجرائم العنيفة الأخرى بنسبة تتراوح بين 50 و70 في المائة، استناداً إلى الاستطلاعات المستعان بها. ولقد سجلت معدلات جرائم الممتلكات انخفاضاً بصورة مماثلة. وربما يتوقع أحدنا انخفاض الاعتمادات المخصصة لقوات الشرطة مع انخفاض معدلات الجريمة سواء بسواء، لا سيما أن الولايات المتحدة في الآونة الراهنة قد تحولت في عمومها إلى بلاد أكثر التزاماً واحتراماً لأحكام القانون، تماماً كما وقع الانخفاض في التمويل المخصص للمشاريع العسكرية إثر نهاية الحرب الباردة مع أوائل تسعينيات القرن الماضي. غير أن ذلك لم يحدث لدى قوات الشرطة، وربما يرجع السبب إلى حالة الجمود التام الراهنة، أو نزعة الهيمنة السياسية على حكومات الولايات والحكومات المحلية في البلاد.
ولكن هل يعني ذلك الأمر أن إنفاق الأموال على قوات الشرطة لا فائدة تُرجى من ورائه، وأنه يجدر بحكومات الولايات وقف التمويل عن هيئات إنفاذ القانون؟ كلا بالطبع، وتشير كثير من الدراسات إلى أن زيادة أعداد رجال الشرطة تميل إلى الإقلال من معدلات الجريمة في المتوسط. ولا بد من مقابلة ذلك مع تكاليف سلوكيات العنف لدى الشرطة -حتى مع إجراءات مكافحة الوحشية المثبتة والمشار إليها آنفاً كافة، فإن نشر مزيد من رجال الشرطة في الشوارع سوف يعني على الأرجح مزيداً من الفرص السانحة لوقوع الانتهاكات العنيفة. بيد أن المدن ذات معدلات الجريمة المرتفعة ربما تقرر أن تلك المبادلة تستحق العناء.
بيد أن الإنفاق على قوات الشرطة لا ينبغي أن يستند إلى السلطة السياسية التي تمثلها الشرطة في حد ذاتها. فإن نقابات الشرطة القوية تملك، بالإضافة إلى تدخلاتها الجريئة وزيادة صعوبة معاقبة رجال الشرطة على سوء السلوكيات، القدرة المحتملة على احتجاز الحكومات المحلية رهينة خدماتها، الأمر الذي يهدد بالقضاء تماماً على أمن المواطنين.
والحل يكمن في الحد قدر الإمكان من المساومة الجماعية لقوات الشرطة، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة عليهم -إن لم يكن محالا- أن يدخلوا في إضراب عام عن العمل. ولن يساعد ذلك في تقليل السلوكيات الوحشية ومساءلة رجال الشرطة على أفعالهم فحسب، وإنما سوف يُضعف العوامل السياسية التي تؤثر على مقدار ما تنفقه الحكومة على تطبيق القانون. ومن شأن ذلك أن يسمح للمدن الأميركية بزيادة الإنفاق الضروري على ملفات الصحة، والتعليم، والبرامج الاجتماعية الأخرى، من دون خشية إضراب قوات الشرطة عن العمل.