سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

سؤال اللحظة في سباق واشنطن مع بكين

عندي سؤال يشغلني وأنا أتابع السباق الحاصل بين الولايات المتحدة والصين، على قيادة العالم وامتلاك أدوات التوجيه فيه، سواء كان ذلك في مرحلة فيروس «كورونا»، أو كان في مرحلة ما قبل «كورونا»، حين احتل الاقتصاد الصيني المرتبة الثانية عالمياً بعد الاقتصاد الأميركي من دون منافس. ولكن السؤال ربما يكون مع جوابه في حاجة إلى أن نتكئ على قصة تسبقهما، لعل معناها يرشدنا على طول الطريق!
فعندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب، كان عليه أن يخاطب هيئة الجائزة من خلال كلمة يلقيها في العادة كل فائز بالجائزة في حفل التسليم!
وقد جلس أديب نوبل وكتب كلمته بالفعل، لولا أنه لم يكن من محبي السفر، ولا كان من الذين يغادرون القاهرة إلى خارج البلد إلا مضطراً، وقد بقي هكذا إلى آخر العمر، فلم يرتحل إلى الخارج سوى مرتين أو ثلاث. ولهذا، فإنه أرسل ابنتيه فاطمة وأم كلثوم تتسلمان جائزته بالنيابة عنه، ثم بعث الأستاذ محمد سلماوي يلقي الكلمة نيابةً عنه أيضاً!
كان ذلك في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1988، وكان هو قد قرر أن يقدم نفسه لهيئة الجائزة، وللذين حضروا الحفل من الفائزين في شتى الفروع، ومعهم الذين يحتشدون في العالم أمام التلفزيون، يتابعون وقائع الكشف عن أصحاب النصيب في الفوز بأرفع جوائز العالم!
وكان قد قرر أن تكون الفكرة الأساسية في الكلمة هي تقديم نفسه، إلى الذين وجهوا إليه الدعوة للحضور والكلام، وكان السبب أنه عرف بعد الإعلان عن فوزه في أكتوبر من العام ذاته، أن لحظة اختيار اسمه لجائزة الأدب في ذلك العام، قد اقترنت بشيء من الدهشة والتساؤل من جانب أعضاء اللجنة الموقرة، وأنهم قد نظر بعضهم إلى بعض في تلك اللحظة، بينما لسان حالهم يكاد يقول: مَنْ يكون هذا الرجل الذي جاء من أفريقيا ليقتنص أعلى جوائز الدنيا في الأدب؟!
وكان تقديره حين سمع بالدهشة التي صاحبت ترشيح اسمه واختياره، أن عليه عند تسلم الجائزة أن يمحو الدهشة من على الوجوه، وأن عليه أن يزيل أسباب التساؤل الذي لازم أعضاء اللجنة، والذي لم يجد جواباً يبدده في لحظة الترشيح والاختيار!
وقد راح يقدم نفسه، ليس على طريقة أنه أنتج كذا من الروايات، ولا على طريقة أنه كتب كيت من القصص، ولكن على طريقة أخرى تشير إلى طبيعة الأجواء التاريخية التي تراكمت فأنبتته مصرياً، والثقافات التي رضع منها حتى استوى أديباً مرموقاً على الصورة التي عرفناه عليها!
لم يكن من الممكن أن يقول في كلمته إنه، مثلاً، صاحب رواية «أولاد حارتنا» الشهيرة التي قيل إنه حصل بسببها على نوبل، ولا كان من الممكن أن يقول إنه صاحب الثلاثية الشهيرة أيضاً، التي تعرض فيها لفترة حديثة مهمة من تاريخ مصر، فكل هذا كان متاحاً أمام أعضاء اللجنة، وكله أيضاً كان في متناول يد الذين رشحوا وقالوا إن الأديب الذي أنتج هذا كله يستحق أن يفوز، وأن يجري إدراج اسمه ضمن لائحة يضاف إليها الجديد من الأسماء عاماً من وراء عام!
ولا بد أنه كان موفقاً عندما اختار أن يخاطب هيئة نوبل في العاصمة السويدية استوكهولم، فيقول إنه شأن كل مصري لم ينبت في فراغ، وإنما هو مع غيره من أبناء وطنه، نتاج عملية من التزاوج الناجح جرت ذات يوم بين حضارتين: الحضارة الفرعونية من جهة، ثم الحضارة الإسلامية من جهة الثانية!
ولكن القول بهذا وفقط من جانبه يظل نصف تقديم إذا جاز التعبير، ويظل هو مدعواً إلى أن يمضي في طريق التقديم إلى آخره، استكمالاً للنصف الناقص. وكان يقينه أن استكمال هذا النصف لن يكون ممكناً إلا بالإشارة إلى موقف له معنى محدد في كل حضارة من الحضارتين. معنى يكشف ليس فقط عن روح كل حضارة على حدة، ولكن عن سر تميزها وتفردها، ثم عن الدواعي التي أدت إلى أن تتقدم كل حضارة منهما لتقود العالم في زمانها وفق مبررات موضوعية ثابتة!
اختار من الأولى موقفاً كان على أحد ملوك الفراعنة فيه أن يحكم في قضية عرضوها عليه، فقال حين سمع بها إنه في حاجة إلى الحقيقة ليحكم بالعدل. وكان المعنى أن الملك الفرعوني قد أراد أن يكون قراره عادلاً، وأن العدل في حد ذاته قيمة تظل هي أساس المُلك، ولكن العدل يحتاج إلى الإحاطة بالحقيقة أولاً، وبغيرها لا يمكن الحديث عن عدل متحقق بين الناس!
وكانت هذه قيمة باقية في الحضارة الفرعونية. كانت قيمة تنبئ عن طبيعة الحضارة وعن جوهرها، كما يتبين مذاق البحر من مذاق القطرة الواحدة فيه، ولو خلت الحضارة الفرعونية من العدل الذي هو حصيلة الاطلاع على الحقيقة، ما كانت قد سادت زمانها وما كانت قد عاشت بعد زمانها!
وكانت الحضارة الإسلامية تحمل قيمة أخرى من نوع آخر. ففي إحدى المواجهات العسكرية بين المسلمين وبين الدولة البيزنطية، أعاد المسلمون إليها أسراها البيزنطيين في مقابل الحصول على مجموعات من الكتب في الهندسة، وفي الرياضيات، وفي الطب، وفي غيرها من علوم ذلك العصر البعيد. ولم يشأ أديب نوبل أن يجعل هذه الفرصة تمر، بدون أن يلفت انتباه الذين جلسوا يستقبلون كلمته، إلى شيء لا يجوز أن يفوت عليهم، هذا الشيء هو أن ديانة الطرف الطالب العربي المسلم في تلك الصفقة كانت ديانة توحيدية، بينما العلوم المطلوبة كانت حصيلة ثقافة وثنية، ولكن هذه المفارقة لم تمنع الحضارة الإسلامية من الانفتاح على ثقافة وعلوم دولة بيزنطية، لم يكن بين أهلها وبين التوحيد أدنى صلة!
وكانت هذه بدورها قيمة في حد ذاتها، كانت قيمة تجعل من الحضارة التي تحملها قوة قادرة في عالمها على ممارسة النفوذ، وكفيلة بأن تسود، ومهيأة لأن تهيمن وتسيطر!
والمعنى أن الحضارات تسود بقوة القيم التي تحملها إلى الناس، قبل أن تسود بقوة الاقتصاد، وقبل أن تستقر بقوة السلاح، فإذا سادت بالأولى صارت قوة ملهمة بالقيم التي تبشر بها، قبل أن تكون مخيفة بسلاحها وعتادها، أو ضاغطة باقتصادها وفلوسها!
وإذا رجعنا إلى السؤال الذي بدأت به هذه السطور، وجدنا أنفسنا أمام تساؤل أساسي عن القيم التي تحملها الصين إلى العالم، كلما زحفت إلى ركن جديد من أركانه، وكلما فكرت في أن تسابق القوة الأميركية لتسبقها وتجلس في مكانها؟!
سؤال القيمة المحمولة إلى شعوب الأرض في مثل هذا السباق هو السؤال الأول، وتجارب الشعوب تقول إنه سابق على سؤال الاقتصاد، بقدر ما هو سابق على كل سؤال سواه!