توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

كيف تقبلنا فكرة الإنسان الذئب؟

أعود هنا لاستكمال المناقشة التي بدأتها في الأسبوع الماضي حول فكرة «الإنسان الذئب». وقد أشرت هناك إلى تبنيها من جانب المفكر الإنجليزي توماس هوبز، كمنطلق لدعوته إلى حكومة قوية مطلقة، لا يحد سلطاتها عرف ولا قانون، شرط تكريس همها لعمران البلد ومصلحة العامة.
وضع هوبز نظريته في غمرة الحرب الأهلية الإنجليزية، التي طالت عشر سنين (1642 - 1651) وخلفت فوضى عارمة، وأحيت نزاعات دينية واقتصادية ومناطقية وغيرها. وفي غمرة الحرب، خرج من يدعو لإحياء نموذج السلطة البطريركية التي تدعمها الكنيسة، وتستند إلى مبررات دينية وفلسفية. في المقابل، أراد هوبز تأكيد المصدر الأرضي لشرعية السلطة، وكونها مستمدة من تمثيلها للمجتمع، وليس من التفويض الإلهي، ولا من تمتع الحاكم بصفات العلم والحكمة، وفق تصوير أفلاطون.
والذي يبدو أن التفكير السياسي والفلسفي الذي عرفه العالم، حتى منتصف القرن السابع عشر، كان يتعامل مع فكرة الحكومة المطلقة، باعتبارها النموذج الاعتيادي للحكم، بل لا يبعد أن يستذكر الكتاب حين يستعرضون نماذج السلطة، نقد أرسطو للديمقراطية، التي تساوي بين العالِم والجاهل، وبين علية القوم والسوقة.
هذه الرؤية تعرضت لتحدٍ شديد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، حين تعرف العالم على فكر جون لوك (1632 - 1704) الذي قدم ما يمكن اعتباره أول تنظير لمبدأ حقوق الإنسان، الذي نعرفه اليوم.
وقد تبنى لوك تفسيراً لأصل الدولة يعاكس مذهب هوبز. وقال إن الإنسان صالح بالفطرة، وإن عقلانيته هي بالتحديد موضع الخير في نفسه. حين تعرف البشر على بعضهم في المجتمع السابق للدولة، فإن أول شيء فعلوه هو التعارف والتعاون، الذي تطور إلى وضع قانون ينظم العلاقة بينهم، وهيئة تقوم على تنفيذه، وهي الدولة.
وقد لاحظت، خلال أبحاث سابقة، أن تراث المسلمين أميل للرؤية الأولى، أي القول بفساد الطبيعة البشرية. وهذا ظاهر حتى في الثقافة العربية المعاصرة، التي تحتفي بالقوة والغلبة، أكثر مما تحتفي بالمنطق العلمي والحوار. إن عدداً كبيراً من العرب الذين تعلموا في المدارس القديمة والحديثة، يحفظون قول أبي تمام «السيف أصدق إنباء من الكتب.. في حده الحد بين الجد واللعب»، ويتعاملون مع فحواه كبديهية لا شك فيها.
ولذا فإن ما نذكره من تاريخنا هو الحروب والانتصارات الحقيقية والمزعومة. لكننا نادراً ما نتذكر تاريخ العلوم وأهلها، ولا نعرف إلا القليل مما أنجزه ابن الهيثم في البصريات، وابن سينا في الفلسفة، والرازي في الطب. ولأننا لم نعرف هؤلاء وأمثالهم، لم نستطع تبني المسار الذي اختاروه، ولم نكتشف القيمة الرفيعة لهذا الجانب من تجربة الأسلاف، إلا حين وجدنا علماء الغرب يتحدثون عنه.
ثقافة الاحتفاء بالقوة التي تقول «كن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب»، هي التي حولت فكرة السلطة إلى غنيمة لمن غلب، بدل أن تكون محل خدمة للمجتمع وتمثيلاً لإرادته، واحتفاءً بأفضل ما فيه. هذه الثقافة هي التي تتسامح مع المتسلطين والطغاة، وترى فيهم أملها وصورتها النموذجية، بينما تحتقر المتسامح والمتساهل، وتعتبره ضعيفاً هزيلاً لا يستحق الاحترام.
أما وقد وصلت إلى نهاية المقالة، فإني أريد التأكيد مجدداً على أن فكرة «الإنسان الذئب» من أسوأ ما أنتج العقل البشري، وهي تقع على النقيض تماماً من حكم العقل، وأحسب أن هذا قد اتضح الآن.