د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

عندما تتحدث إسرائيل عن الظلم التاريخي

تتسم إسرائيل بأنها تذهب في إتقانها للدور في جميع الاتجاهات والأبعاد الممكنة. إنها تتقمص الدور إلى حدٍّ تجعل منه واقعاً مفروضاً ومُعاد البناء وفق إرادتها. ونحن هنا أمام طريقة في الوجود والصراع اختصت بها إسرائيل بشكل خاص؛ طريقة تقوم على تعدد المسائل إلى جانب الأرض، المسألة الأم، مع اشتغال ذكي ومقصود على اللغة، لتسويق خطاب يتحول في النهاية إلى واقع قسري يلزمُ التعامل معه.
من ذلك، أن نجد أنفسنا - نحن الشعوب العربية والإسلامية بشكل خاص - أمام خطاب إسرائيلي حكومي رسمي، يتحدث عن الظلم التاريخي، وعما تسمى أملاك اليهود في الدول العربية؛ حيث جاء في التلفزيون الإسرائيلي ذِكرٌ لتقديرات رسمية للممتلكات اليهودية المفقودة في كل من مصر وتونس والجزائر والمغرب وليبيا ولبنان، والتي تبلغ قيمتها حسب التقرير الذي بُث 250 مليار دولار. وبناء عليه عبَّرت وزارة شؤون المتقاعدين عن ذلك برفع دعاوى قضائية في هيئات أممية، من أجل استعادة ملكيتها، أو دفع تعويضات، حسب كلام إطاراتها العليا.
وللتذكير، فإنه منذ ثمانية أشهر، ذكرت وزيرة المساواة الاجتماعية في إسرائيل، أنه «حان الوقت لتصحيح الظلم التاريخي الذي تعرض له اليهود في سبع دول عربية وإيران»، من دون أن ننسى دعوة الرئيس الإسرائيلي عام 2014 رؤوبين ريفلين دولاً عربية، بما فيها تونس، إلى دفع تعويضات لليهود الذين قال عنهم إنهم أُجبروا على ترك هذه الدول، بداية من 1948، وتسوية وضعياتهم العقارية.
اللافت أن هذا الموضوع ظل قائم الذات، وتحركه الحكومة الإسرائيلية من حين إلى آخر، رغم ما غنمته من موضوع «صفقة القرن» وعمليات الاستيطان المختلفة الأشكال والمعاني التي ما فتئت تقوم بها. وهناك مؤشرات عدة تبين أن هذا الموضوع سيتحول في أقرب فرصة سياسية إلى موضوع أساسي، أو بند رئيسي من بنود الصفقات الإسرائيلية السياسية للضغط.
كما أن المستفز في هذا الموضوع أن إسرائيل تتصرف فيه وكأنها ولية أمر اليهود في العالم، رغم أنها قانونياً ليس من حق حكومتها رفع قضايا في هيئات أممية، ومطالبة الدول بتعويضات، والحال أنهم مواطنون تابعون للدول التي يعيشون فيها ويحملون جنسيتها. بمعنى آخر: هناك لخبطة في الأمر، وتدخل في شؤون دول أخرى، ويهود، هم قانونياً مواطنون في الدول التي يعيشون فيها. وحتى بالنسبة إلى الذين غادروها فالأمور معقدة جداً. وفي سنة 1948 مثلاً كانت كل الدول العربية المقصودة تحت الاستعمار الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي، ومن ثم فإن مطالبة حكومات الاستقلال، والتمسك بقضايا حول ممتلكات تجاوزت الثمانية عقود، فيهما ضرب من افتعال القضايا، ومن تنويع القضايا التي تؤكد صورة اليهود الضحايا والمعتدى عليهم، وأصحاب المظالم التاريخية المتنوعة.
أغلب الظن أن إسرائيل نفسها تعرف أنها تتحدث عن قضايا خاسرة، ولكنها تبحث من خلالها عن استثمار سياسي يفيدها في التأجيج، وفي خدمة أغراض قضايا أخرى، وتبيح بواسطته الاعتداءات التي تقوم بها.
فالممتلكات التي تتحدث عنها معظمها آيل للسقوط. وهي تعرف جيداً أن الدول العربية، مثل تونس والمغرب ومصر ولبنان، غير قادرة على دفع تعويضات مالية؛ حيث تريد من تونس مثلاً 35 مليار دولار، ومن ليبيا 15 مليار دولار، وهي مبالغ علاوة على ضخامتها وعدم أحقيتها على الأقل بالشكل الذي تقدمه الحكومة الإسرائيلية، فإن إسرائيل أول المتأكدين من عدم الحصول على هذه التعويضات المالية. وهنا تُطرح مجموعة من الاستفهامات، فنبرة إسرائيل في ملف أملاك اليهود تبدو عالية وواثقة، ومن ناحية أخرى الجميع على ثقة بعدم قدرة الدول العربية على دفع هذه التعويضات، وحتى لو كانت تمتلك القدرة المادية، فإن المسألة ليست سهلة، وموضوع خلاف حقيقي وقضية في منتهى الحساسية.
السؤال إذن: هل إسرائيل ترغب في التسلل إلى اقتصادات البلدان المعنية بدفع التعويضات، من خلال إقامة مشروعات فوق أراضي ممتلكات اليهود الآيلة للسقوط؟ أم أن القصد من تصدير القضية أممياً الضغط دولياً على اقتصادات الدول العربية، وتأمين حصة لها بشكل من الأشكال، وهي التي لها الصوت العالي في البنوك الدولية؟
نطرح هذه التساؤلات؛ لأننا نعتقد أن الأمر أكبر من أن يكون زوبعة في فنجان. والتاريخ علَّمنا أن إسرائيل تبدأ قصصها التاريخية دائماً بالزوابع، لتمر إلى شيء آخر جدي وإشكالي.
المهم والمؤكد هو أن هذا الملف سيتم توظيفه كورقة ضغط اقتصادية وسياسية في البلدان المذكورة، والتي أرسلت لها الحكومة الإسرائيلية وثائق تحدد بدقة الممتلكات المطلوبة، سواء لاسترجاعها أو لتعويضها مالياً، وفق تقديرات وضعتها الحكومة الإسرائيلية.
طبعاً، لا تفوتنا الإشارة إلى أن اليهود المواطنين الحاملين لجنسيات الدول العربية، من المنتظر أن يكون لهم موقف واضح، وهو موقف لا يخلو من امتحان يحدد ولاءهم لإسرائيل الدولة، أو للدول العربية التي تتعامل معهم كمواطنين لهم حقوق وواجبات، ومن المفروض أن تُحل الإشكاليات داخل محاكم الدول التابعين لها، لا أن تتدخل حكومة دولة أخرى، حتى ولو كانت هذه الدولة هي إسرائيل التي ينتمون إليها بأبعاد مختلفة، وربما أقوى.
إن تكثيف الحديث عن ملف أملاك اليهود في بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، يندرج ضمن شعور إسرائيل بالاستقواء، وبأنها تمتلك ملفاً يعد بمثابة ورقة رابحة للتفاوض في موضوعات أكثر أهمية واستراتيجية. فإسرائيل فقط من تمتلك موهبة استثمار ما تسوقه على أنه ظلم تاريخي.