عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

حكاية المسمار الصغير

تغريدة «تويتر» من عامل نظافة في مستشفى لندني اضطرت الحكومة، بضغط الرأي العام، إلى تعديل سياسة أعلنتها في مجلس العموم في اليوم نفسه. صاحب التغريدة ليس مجرد من يتوقعه القارئ كعامل نظافة تقليدي، فهو منتج فيلم مدرب، كان قد ترك سوريا مع الانتفاضات التي تحولت حرباً أهلية، وأنتج أفلاماً تسجيلية رشحت لجوائز، فأتقن فيديو كليب مصاحباً للتغريدة ليترك انطباعاً دفع مئات الآلاف لمشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي.
تذكرت حكاية قرأتها في عام 1950 في مجلة «سندباد» الأسبوعية المصرية، أفضل ما صدر للأولاد والبنات في تاريخ كل المطبوعات بالعربية في تلك الحقبة، لدرجة أن وزير المعارف (التعليم) وقتها الدكتور طه حسين (1889 - 1973) خصص ميزانية لاشتراك كل المدارس الابتدائية في المملكة المصرية (مصر والسودان) لتوفير أعدادها في كل فصل. كانت «سندباد» تلخص الثقافات العالمية من أدب وتاريخ واكتشافات العلوم تترجم للأطفال. الحكاية، من الأدب الألماني المعاصر ومغزاها مساهمة الصغير في المجتمع. حوار بين مكونات الآلات والتروس والمسامير والصواميل في بارجة في الأسطول. كل يتفاخر بدوره، بينما يتذمر مسمار برشام حجمه نصف سنتيمتر يتجاهله الآخرون ولا يرى لنفسه أهمية، منسياً في قاع السفينة كآلاف مثله يربط ألواح الصلب بعضها ببعض، لا يلاحظه أحد تحت أكوام التراب وملح البحر وزيوت التشحيم. ذات ليلة عاصفة لم يعد المسمار الصغير يتحمل التجاهل واللامبالاة والقذارة، فقرر الهرب تاركاً مكانه إلى قاع البحر، وسمعه زملاؤه فسارت وراءه بضعة مسامير أخرى سئمت من تجاهل الكبار. التوى لوح الصلب الذي كانت تمسكه المسامير واندفعت المياه من الثقوب وأغرقت غرفة الآلات وتوقفت البارجة وهرع البحارة والفنيون بجرها لإصلاحها، وأمر كبير المهندسين بتعليق صورة أصغر مكونات البوارج والسفن في غرف ورش الصيانة لتذكير الجميع بأهمية التفتيش على أدق المسامير وأصغرها.
حكاية تعلم الطفل أن الآلة أو سفينة تبحر مثل المجتمع الذي يتوقف نجاحه على إتقان الكل دوره مهما صغرت أهميته في اعتباره، فأكبر الأدوار وأعظمها شأناً لا يقل أهمية عن أصغر المراكز الاجتماعية مكانة في نظر الناس.
غرد حسن العقاد اللاجئ السوري في بريطانيا، أنه بلا عمال النظافة الذين يخرجون القمامة ويكنسون تحت أسرّة المرضى، لا يمكن للمستشفى أن يمارس وظيفته اليومية. وباء «كوفيد – 19» أظهر أهمية عمال النظافة، ليس فقط في المستشفيات، بل في الشوارع ووسائل الخدمات التي لا تزال تعمل. محال السوبر ماركت، مراكز البريد والتوزيع، البوليس بسياراتهم وأقسامهم، المواصلات العامة من باصات وقطارات مترو وعشرات أمثالهم. كل ركن، ورف، ومقبض باب، وزر تشغيل، ينظف بالمطهرات مرات عدة في اليوم. عمال جمع المخلفات وكنسها من الشوارع، وعاملات التنظيف، وسائقو التاكسيات والأتوبيسات، بلا أدوارهم يشل المجتمع ويخرب الاقتصاد، ناهيك عن تحول الوباء إلى طوفان يقضي على حياة الملايين.
كانت شكوى العقاد على «تويتر» بشأن قلق أقارب وأسرة عامل نظافة مثله، في حالة وفاته من «كوفيد – 19»، فهو مقيم وليس مواطناً بريطانياً، هل سيجبرون على الرحيل؟ والجانب الآخر من شكوى العقاد هو الرسوم (قيمتها بالدولار تقارب 900) التي يدفعها أي أجانب يحصلون على الإقامة بعد تسجيلهم للعمل في المملكة المتحدة، وهو مبلغ اشتراك للحصول على الخدمات الصحية المجانية من مؤسسة الصحة القومية.
دفع الأجانب للمبلغ يبدو منطقياً وعادلاً كمساهمة متواضعة. فالمواطن البريطاني يدفع ضرائب دخل، وضرائب مسكن، وضرائب محلية، بجانب ضرائب الضمان الاجتماعي والمساهمة في المعاش منذ تلقيه أول أجر، والغالبية الساحقة يبدأون حياتهم العملية ويدفعون الضرائب وهم في سن ما بين 16 و18 عاماً، بينما الأجنبي القادم سيتلقى رعاية طبية منذ لحظة وصوله من دون أن يكون قد دفع أي ضرائب؛ لذا فمبلغ 900 دولار يبدو مساهمة معقولة. لكن تغريدة العقاد تساءلت، وماذا بشأن أمثاله العاملين في مجال الصحة العامة؟ في أي صناعة أو تجارة العاملين فيها يحصلون على تخفيضات كبيرة لا يتمتع بها المستهلك العادي أو يحصلون عليها مجاناً، كالعاملين في المواصلات، أو الوجبات المجانية وأجر المسكن للعاملين في الأوتيلات والمنتجعات. ألا ينبغي استثناء العاملين في مجال الصحة من الرسوم؟
بعد إثارة الرأي العام في محيط التواصل الاجتماعي واهتمام الصحافة، خاصة الإذاعية والتلفزيونية، غيّرت الحكومة من موقفها وضمت أسر عمال النظافة في المستشفيات إلى المضمون رعايتهم في حالة وفاة عائل الأسرة.
درس آخر بجانب دور وسائل التواصل الاجتماعي في إنهاء احتكار الوسائل الصحافية التقليدية بإتاحتها الفرصة لمهاجر كالعقاد لمخاطبة الرأي العام والاحتكام لعدالة المجتمع قبل عدالة القانون؛ هو تقدم مفهوم العدالة والمساواة واحترام أهمية دور كل شخص مهما كان متواضعاً في المجتمع الصناعي المتقدم. صادفت دارسات الدكتوراه يعملن في تنظيف المنازل لتمويل الدراسة، وخريجي الجامعات الكبرى أحياناً ما يعملون سائقين وغرسونات لسنوات عدة للتفرغ لكتابة رواية أو مسرحية أو بحث كتاب. أمثالهم يقابلون بنظرة دونية في المجتمعات غير الناضجة التي لم تصلها الثورة الصناعية بعد قرنين من تطويرها المجتمعات الأوروبية اقتصادياً وثقافياً.
أذكر مؤرخين وكتّاباً مصريين لا يزال نقادهم يعايرونهم بوظائف متواضعة امتطوها في رحلتهم نحو النجاح فلم ينتموا إلى طبقة الأفندي موظف الميري المحترم التي تبجلها العقلية الشرقية.
وزير الصحة البريطاني يدرس كيف يستثني عمالاً كالعقاد من شرط رسوم الالتحاق بالعمل، فقد اصطدم بحائط البيروقراطية المنيع، فالاستمارة تصنف العاملين في المستشفيات، من غير الأطباء والممرضات، في خانات المهن غير الطبية، أي لا يشملها تعديل الاستثناء من رسوم التسجيل بمناسبة «كورونا».
بجانب الجمود والبطء فإن البيروقراطية عادة تعجز عن التعامل مع حالات فردية بأهمية حكاية المسمار في مجلة «سندباد».
خضعت دار المعارف التي كانت تصدر «سندباد»، لمنظومة الصحافة المؤممة في مصر في مطلع الستينات، وواجه الموظف البيروقراطي معضلتين. وزارة التعليم كجهة حكومية تدعم مالياً «سندباد» التي تتبع دار المعارف التي أصبحت جهة حكومية ثانية بالتأميم، والأخرى، أن المجلة مثل «ريدرز دايجست» الصغار ملخص لمختارات أفضل ما ينشر من مختلف البلدان، خاصة الأوروبية، في وقت المقاطعة والصدام مع الغرب عقب حرب السويس. التعليمات واضحة «حماية المجتمع من غزو ثقافة الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي». وقف الموظف البيروقراطي عاجزاً أمام حالات لم تذكرها اللوائح، فكان نصيب مجلة «سندباد» الإفلاس بعد أن اشتملها قرار إلغاء الاشتراك المدرسي، وغادرت المسامير الدقيقة المخفية أماكنها، فتدفقت مياه البحر وغرقت السفينة التي كانت تبحر بالعقول لتربطها بأحدث المعلومات التي تتلقاها عقول نظرائهم في المدارس الأوروبية.